تحقيق ليلى دندشي
الحلاق شخصية تاريخية سُجّل حضورها مع ظهور العهود الملكية ولمع دورها في البلاط وتميّز لكونه أحد أقرب رجال الحاشية إلى الحاكم الذي كان يُغدق المال والجواهر عليه لإكتساب وُدّه وعدم خيانته، سيما وأن حركة بسيطة من يده التي تقبض على موس الحلاقة بإمكانها أن تودي بحياته.
لذلك كان الحلاق مقرّبا من الملوك ومن الطبقة الحاكمة والأمراء وقادة الجيوش، في حين أن الإعتناء بالتزيّن والجمال عند نساء هؤلاء الحكّام تأخّر بعض الشيىء إلى أن عُهد بذلك إلى بعض الوصيفات اللواتي كان لهنّ معرفة بالتبرّج وإستخدام بعض المساحيق في إظهار جمال النساء ممن يمتلكن الحظوة الملكية.
ومع إنتشار الممالك وقيام المدن وإقامة الأسواق بدأت شخصية الحلاق تظهر شيئا فشيئا في الأوساط الشعبية وبين السكان، وطبيعة الحلاق وأنواع أدواته التي يستخدمها في “صناعته” وطابعها الجمالي لم تكن لتختلف من مكان إلى آخر أو في أوساط هذا الشعب أو ذاك، والإختلاف الوحيد ربما كان يظهر بين حلاق القرية وحلاق المدينة ولطالما تمّ إستخدام ذلك في بعض الروايات الأجنبية والعربية ، وقصّة “حلاّق إشبيلية” أكبر دليل على ذلك فالأول يقيم “صالونه” تحت شجرة السنديان او الصنوبر، أما الثاني فقد إتخذ مقرا له أحد دكاكين الحارة الشعبية ،ومن كرسي واحد لإستقبال الزبائن بالدور إلى تعدد هذه الكراسي الخاصة مع إزدياد الزبائن.
وفي حين كانت الحلاقة تقتصر على الشبان والرجال فقد إتّسع مجال العمل ليسري ذلك على الأطفال وصغار السن.
ويا للطامة الكبرى ، فكل الأطفال سواسية عند ذهابهم في المرّات الأولى إلى عند الحلاق، ولا ينفع عندها كل التحضيرات التي تقوم في المنزل وتسبق هذه “الزيارة” والوعود التي تُغدق من الوالدين لشراء هدايا وألعاب تهمه ويفرح بها إذا بقي “عاقلا” عند الحلاق، والجدير ذكره أن الحلاقين عند إستقبالهم للأولاد كانوا يستخدمون لوحا خشبيا يتم تركيزه على يدي كرسي الحلاقة حتى يُمكن أن يصبح الولد على إرتفاع مناسب للحلاق.
وطبعا كل الوعود والإبتسامات والقبلات لا تنفع في هذا المقام فالصبي سيبدأ بالعويل وهذا ناتج بالطبع من حركة المقص بيد الحلاق فتحا وإغلاقا مما يتسبب بحالة خوف لدى الطفل الذي يخال له أن الحلاق يرغب بقص أذنه مثلا أو أنفه وربما لسانه، وهذا هو السبب الأساسي في التسبب بهذا الصراخ.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن معظم الحلاقين عشية الأعياد والمناسبات يرفضون إستقبال الأطفال ويطلبون من ذويهم تأجيل ذلك إلى ما بعد العيد أو أن يأتوا بأولادهم قبل العيد بأيام ،لأنّ حلاقة الأولاد عشية الأعياد تستغرق وقتا طويلا وفي ذلك خسارة للحلاق.
وطبعا الحلاقة عشية الأعياد تتطلّب معايدة الحلاق بدفع” بخشيش “له وكلما كان الزبون منشرحا للقصّة كلما كان البخشيش أكبر.
والحلاق كما يُسمى أحيانا في بعض المجتمعات ب ” المزين” هو “مُسبّع الكارات” والبعض منهم وبفعل خفّته في إستعمال موس الحلاقة الذي يُسن غالبا بواسطة قشاط جلدي، فإنّ هذه الخفّة اليدوية مكّنت البعض من إجراء “الختان” للأطفال من أبناء حارته أو الحارات المجاورة.
عند ذاك يُطلق على هذا الحلاق إسم “مُطهّر” للأولاد، وكان يُعرف من شكل وطبيعة حقيبته اليدوية وكانت مبرومة الشكل وعليها إسمه وأنه مطهر قانوني أي بإمكانه مزاولة وإجراء عملية الطُهور، وهذه لها طابعها وتحضيراتها وعاداتها ، فمن جهة تدعو العائلة الأقرباء للحضور وهذا يعني جلب وشراء الهدايا للطفل أو لأشقائه أيضا لاسيما أن الطرابلسيين كانوا يُجرون عملية الطهور لأكثر من إبن وربما لثلاثة أو أربعة اولاد وعندها تكون الهدايا كثيرة وعديدة وتتلاءم مع أعمارهم، وبالطبع تكون العائلة قد حضّرت الملابس الخاصة لما بعد الطهور وهي عبارة عن أكثر من “قمباز” باللون الأبيض أو الأصفر أو الأزرق .
ويتم التحضير للطهور بمحاولة الزعم للطفل بأنه سيشهد بعد قليل حمامة تطير في الغرفة وذلك لإلهائه عما يقوم به المطهر وعندما يصبح كل شيىء جاهزا يحاول شخصان إثنان أو أكثر الإقتراب من الطفل في محاولة لتثبيت يديه تحت فخذه من الجهة الخلفية في حين أن الطفل يكون في حالة إنتظار للحمامة الطائرة في أجواء الغرفة، ولكن سرعان ما يتبين له أن شيئا ما يجري في الخفاء ويحاول الصراخ لمنع عملية تكبيله ووسط هذا المشهد يعلو التصفيق وبخفة شديدة ينجز الحلاق -المطهر عمله بدقة ويستخدم بعض الأدوية لتطهير الجرح وتضميده.
وشيئا فشيئا يعود كل شيىء إلى مسراه الطبيعي ويلتهي الطفل ببعض الهدايا ويتم تقديم كاسات المغلي وبعض الحلويات العربية المحلاّة بالجور واللوز والأطايب بإنتظار مأدبة العشاء التي تقام بالمناسبة السعيدة.
وإذا كان أشهر هؤلاء الحلاقين المطهرين ذلك الذي كان دكانه يقوم في منطقة الدباغة عند مدخل خان العسكر مقابل جسر اللحامين الكائن سابقا فوق نهر أبو علي، فإنّ العديد من الحلاقين في حارات وشوارع المدينة القديمة كانوا يقومون أيضا بعلاج أطراف الذين يتعرضون للسقوط أو الوقوع في حال إصابتها بالكسور وتجبيرها، فإنّ أحد الحلاقين الذي كان دكانه يقوم على مقربة من موقف سرفيس أبي سمراء في محلة ساحة التل كان يضع في ما يشبه الأكواريوم ديدانا سوداء اللون وكان بإمكان المارة أن يشاهدوا ذلك عند مرورهم بالقرب من محل الحلاق ويتساءلون عن هذه الديدان ليأتيهم الجواب من الحلاق او معاونيه أنها من “العلق” التي تساهم في حال إستخدامها بشكل حرفي على ظهر المريض أن تمتص الدم الفاسد وتمنحه الشفاء.
كما أنّ من الحلاقين الطرابلسيين من إشتهر بإستخدام “كاسات الهوا” لمعالجة أوجاع الظهر في غرفة جانبية ملحقة بدكانه أو يقوم بزيارة المريض في منزله لإجراء هذا العلاج الذي عرفه العديد من الطرابلسيين.
وقد إشتهر من الحلاقين في طرابلس عدد وافر منهم بإمكانه أن يشفي الناس من “الثعلبة” وأن آخرين برعوا في خلع الأضراس،بإستخدام كماشات خاصة يلتقط بإحداها الضرس المصاب بالتسوس وبحركة رشيقة بعد أن يحاول خلخلة الضرس يمينا وشمالا يقوم بسحبه دون ان يشعر المريض بأي ألم يذكر،وعقب ذلك يعطيه دواء عشبي للمضمضة .