كتب رامح حمية في الأخبار:
بعد طوابير المحروقات وغالونات الزيت وغيرها من المواد الغذائية، ها هي طوابير الخبز ترتسم صفوفها أمام الأفران في البقاع من منتصف ليل كلّ يوم وحتى ساعات الظهيرة من اليوم التالي، توقيت انتهاء الكمية. لا فرق بين أفران كبيرة أو صغيرة. الطابور نفسه والذلّ نفسه. تارة تتوقّف أفران مدينة بعلبك عن الإنتاج فيعيش أكثر من 600 ألف نسمة أزمة فقدان الرغيف، وتارة أخرى تتوقّف أفران منطقة غربي بعلبك ليعيش أكثر من 200 ألف نسمة المعاناة ذاتها، فيما الجواب عند أصحاب الأفران «لم يتمّ تسليمنا الطحين، شو طالع بإيدنا».
التسليم بالقطّارة
يوم أمس الأول، استيقظ أبناء قرى غربي بعلبك على انقطاع الخبز من أفران «سنبلة» في بلدة شمسطار، ليستعيض الأهالي عنه بالتزاحم على «عجنة» أفران الخبز المرقوق والتي لا تتعدّى في كلّ منها الثلاثة أكياس من الطحين. يؤكد صاحب أفران «سنبلة» علي زعيتر أن المشكلة تكمن في تسليمنا الطحين بـ»القطارة»، فتارة نحصل على 3 أطنان وتارة أخرى على 5 أطنان، «في الوقت الذي تتسلّم فيه أفران أخرى كميات أكبر ويبدو أنها «محظية» وهناك من يسأل عنها، وكلّما استوضحنا عن الكمية المحدودة التي نحصل عليها وحتى عن عدم تسليمها لنا كما حصل يوم السبت يكون الردّ «خلي الوزير يسلّمكم
الأجهزة الأمنية فتحت باب التقصي والتحقيق في ماهية مشكلة الطحين وأزمة الرغيف ولعبة تقاذف المسؤوليات بين الوزارة وبين أصحاب المطاحن والأفران والتجار، وسرعان ما كرّت سبحة مافيات الطحين بدءاً من الوزارة وإداراتها، مروراً بالتجار والمطاحن الكبرى في كل من بيروت والشمال والجنوب، وصولاً إلى أصحاب الأفران.
رشاوى واستنسابية
تؤكد مصادر أمنية لـ»الأخبار» أن الأزمة التي يعيشها المواطنون تشبه تفاصيل أزمات المحروقات والمواد الغذائية لجهة الاحتكار وتحقيق أرباح طائلة. ملامح التحقيقات الأمنية تتطابقت مع حديث النائب علي المقداد لـ»الأخبار»، الذي أكد أن اختفاء الطحين يبدأ مسلسله من الوزارة إلى المطاحن ومن ثم التجار، وحتى معظم أصحاب الأفران الذين يصلهم الطحين ليلاً، ولكنك تُفاجأ بإقفالهم في اليوم التالي بذريعة عدم وجود الطحين، متسائلاً عن السبب في تسليم الطحين بكميات محدودة لبعض الأفران الكبيرة في حين أن تجاراً أو أصحاب أفران محدّدين تصلهم الكميات كاملة، وهذا دليل على أن هناك رشاوى وعملية تقتير على من لم تشمله الحظوة».
يتسلّم أحد أصحاب الأفران 88% فقط من قيمة بون الطحين المخصّص له
إحدى المشكلات التي يعاني منها أبناء محافظة بعلبك الهرمل عدم وجود مطاحن كبيرة كما في بيروت والشمال والجنوب، إذ يقتصر الأمر على مطاحن صغيرة لا تلبي حاجة أفران المنطقة. المصادر الأمنية تؤكد وجود استنسابية في تسليم الطحين من قبل مديرية الحبوب والشمندر السكري في وزاره الاقتصاد والتجارة، إذ من المفترض أن يكون التدقيق قد تمّ في لوائح أسماء أصحاب الأفران وفق عملية تقصٍّ لبعض التجار وأصحاب الأفران المتوقّفين عن تصنيع الخبز بسبب إقفال أفرانهم أو حتى بيعها مباشرة إلى تجار للتهريب. ويقول صاحب أحد الأفران في البقاع (والذي رفض ذكر اسمه حتى لا تمتنع المطاحن عن تسليمه الطحين) إنه يحصل على «بون طحين الوزارة ناقصاً إذ يخوّلني الحصول على كمية محددة بالطن من الطحين للشهر الواحد، ومنذ فتره لا يتم تسليمي إلا ما يقارب 88% من الكمية ولدى سؤالي يأتي الردّ: هيدا الموجود، وبهذه الطريقة أكون قد خسرت 12% من البون وربّك أعلم لمين راحوا».
الطحين نخالة حيوانية!
لا تقتصر الانتهاكات على هذا الحدّ، إذ تشير المصادر الأمنية إلى تسلم أصحاب أفران مقفلة في البقاع بونات الطحين، وبيعها للتهريب إلى سوريا وإما إلى أصحاب الأفران الصغيرة للخبز المرقوق والمناقيش وبأسعار وصلت إلى حدّ مليون و400 ألف ليرة للطن الواحد.
كما تتمّ التجارة بالطحين على أنها «نخالة» حيوانية (النخالة هي الطبقة الخارجية القاسية من حبة القمح، وهو منتج ثانوي ويُستخدم للمواشي والدجاج والأسماك والخيول). فقد أشارت المصادر الأمنية إلى أن تجار أعلاف يتسلّمون كميات من الطحين المدعوم من المال العام، على الرغم من عدم أحقّية حصولهم على الطحين المخصّص للخبز أصلاً، وبسعر طن لا يفوق 3 ملايين و300 ألف ليرة ويعمدون الى بيعه كـ»نخالة» إلى مربي المواشي بسعر طن يُراوح ما بين خمسة وستة ملايين ليرة، وسط تأكيد المصادر الأمنية أن أسماء هؤلاء التجار «باتت معروفة»، ويشترون الطن من الطحين المدعوم على سعر 3 ملايين و300 ألف ليرة، من مخازن في الجنوب ليباع إلى مربّي المواشي، ومن ثَمَّ يحققون أرباحاً طائلة خصوصاً أن طن النخالة يباع بثمانية ملايين ليرة، وقد بدا لافتاً نفوق أبقار في بعض المزارع لعدم الدقة في تحضير خلطة العلف لاختلاف نعومة الطحين عن النخالة الخشنة، ما يؤدي الى تصلّب أمعاء البقرة ونفوقها وهو ما حصل فعلاً لدى بعض مربّي الأبقار في البقاع.
البيع «الحرّ»
فضلاً عن حالات بيع الخبز في المناطق، تتواصل عمليات الاستغلال، حيث بات بعض السوريين واللبنانيين يعمدون إلى توزيع أنفسهم على الأفران ليلاً وجمع أكبر كمية من الخبز بهدف بيعها على الطرقات وفي أحياء المدن والقرى، فيفضّل البعض شراء ربطة الخبز من أمام منزله وعدم تكبّد عناء وعبء بنزين الانتقال والانتظار أمام الفرن حتى لو اشترى ربطة الخبز بثلاثين ألف ليرة بدلاً من 13 ألفاً. بعض اللبنانيين يشغّلون سوريين لقاء بدلات مالية بسيطة لتأمين الخبز، ويعملون على بيعها في دكاكين القرى بأسعار تُراوح بين 25 و30 ألف ليرة.