تبدو محاورة اللوحات للشخصيّات أقوى من لغة الوصف القصصيّ للوجوه الشاحبة، التي بلغ بها اليأسُ والكآبة منتهى المآرب والغايات. أخرجَها الفنّان الرسّام من محشرها الضيّق في زوايا النسيان لتنطق بما أضمرته في حناياها ورؤوسها؛ ويكاد لغطها الخافت يضيع في ضجّة روّاد المعرض وتعليقاتهم.
ثمّة تركيبات بارعة من ديكورات القصص الداخليّة، وأشياء الواقع الخارجي، تمتزج باستيحاءات التاريخ القديم، إلا أنّ تلك كلّها قُرِئت بفرشاة “مكياج” ناشفة الألوان، من جنس التاريخ نفسه. لا يمكن جمع التناقضات البشريّة والجامدة ونقلها كلّها في حزمة رؤيويّة واحدة، بسبب الهشاشة الزمنيّة التي سَلَبَت من المرئيات حيويتَها العضويّة والهيكليّة، رغم الجدل الديالكتيكي الذي يؤلّف بين شظاياها، ويحافظ على التلاؤم والسلام بينها وبين بيئتها القديمة.
نحسّ بثقل الصمت أحياناً، خلال الفراغات المهيكلة بالأشياء والكلمات؛ تصمت الهياكل البشريّة فنسمع دبيبَ الفناء يتسلّل خلال عظامها وبقاياها الديكوريّة. اتّسعت الشّروخ بين الماضي الراكد ورؤياه المتأخرة، التي جاءت في صيغة استرجاع ترميميّ لقلوب كسيرة. (ما أضيعَ ذلك الحنين الذي نرسم به زمناً متكسّراً كماعون فخاريّ سقط من فاترينة قصةٍ يمتدّ زمنها أكثر من نصف قرن!).
يُفلِح علي مهدي في تصوير تلك البقايا السرديّة بلغة الرسم الواقعيّ_ التعبيريّ، مستبعداً أيَّ عائق شعوريّ لتجسيد محنة التزمين والتمكين لأجواء الماضي، ويوفّر أكبر قدر من المعاصرة، بأسلوب قصص الحاضر. إنّه في حالة سباق مع الأشخاص المكتوبين، قبل أن تطوي القراءةُ التشكيلية ملفّاتهم للأبد. يُدرك الفنّانُ _ القارئُ صعوبة إعادة تشكيل القصص في بناء متوازن يحاكي الكتابةَ بالصورة وانعكاسها الظلّي على قماشة الحاضر، فيبذل ما استطاع من تمعّن واستبصار وخبرة في الإنشاء والتكوين البصَريّ لمجموعة مرئيّات متباعدة وعزيزة على الاسترجاع والمحاكاة.
لكنّ الفنّان الذي يأتي على حوادث قصص الحاضر القريب (قصص مجموعة _المحجر_ عن انتفاضة تشرين ٢٠١٩) يشعر بحرية أكبر في تجسيم الرؤى الحكائيّة لحوادثها. إنّ لوحاته الزيتيّة والمائيّة المحاكية أجواءَ هذه القصص تنبض بالحركة والبوح الصريح بعناصرها القصصيّة الأصليّة، ويبدو تشخيصها من جديد أكثر حضوراً وإقناعاً وتأثيراً في متلقّيها؛ من دون أن يفرّط الفنّان بأسلوبه في تعتيم وتغميض العلاقات التشكيليّة وإغراقها في ماء الرؤيا الأزرق، وغبار الشوارع البنّي/ القهوائيّ المحروق (وكأنّ العينين اللتين أبحرتا في مياه الزمن الماضي، تبصران آخر ضوء متبقٍّ من زمن شائك باحتمالاته السياسيّة العنيفة).
اقتضَت أمانةُ الفنّان المحاكاتيّة وصدقُه الأخلاقيّ، إيصالَ شحنة القصص لقارئها التشكيليّ_ القارئ الآخر في قاعة العرض_ بأقصى سرعة من الانعكاسات الرؤيويّة، وأقصر مساحة تشكيليّة، واحتمالات تأليفيّة، قبل أن تستنفد عيناه الضوءَ المنعكس من نهايات القصص. إنّها فرصة الفنّان الرئيسة لكي يضيف شهادةً لونيّة فوق وصف اللغة الحكائيّة لقصص الزمن الحاضر، هذه التي كُتِبت بمعاناة لا تقلّ خطورة عن التجسيد الصوريّ_ الرؤيويّ.
خطّطَ علي مهدي طويلاً لخوض مباراةٍ فنّية صعبة، تألّفت عناصرُها التشكيليّة من مجموعة انعكاسات سرديّة، تراوحت بين الماضي والحاضر، دفعة واحدة. لقد أثمرت مراجعاتُه القرائيّة الطويلة في تزمين المواقف والإشارات بمنتهى اليقظة والحضور التجسيميّين، وأرانا قدرتَه على المحاكاة والتأويل، قراءةً وكتابةً تصويريّة بصَريّة، متساوية مع الأصول السرديّة الحكائيّة. وسيبقى معرض “الرؤى” هذا دليلاً على المقاربات الناجحة بين السرد الكتابيّ والمحاكاة التصويريّة، في أرقى درجات التناصّ الإبداعي للفنّ التشكيليّ.
استضافَ علي مهدي سرديّاتي في مشغله الفنّي، وأسقاها من معين رؤاه، ولا أملكُ إلا كلمات قليلة أكافئ بها صنيعَه الجميل!