
مقال للكاتب صفوح منجّد
في اليوم الثالث لإندحار النظام العسكري السوري وإستعادة زمام الأمور لأبناء الشعب الذي تحرر من هيمنة القتلة والمرتزقة وإسترجاع حقه في الحياة الحرّة الكريمة، وإنطلاقه رجالا ونساء وأطفالا ومن كل المدن والحارات والقرى والتدفق على العاصمة وتوقفه مطولا في “سوق الحميدية” في لحظة إسترجع فيها العرب من كل مكان تلك المواقف التي إنطلقت فيها الوحدة العربية بين مصر وسوريا في 22 شباط 1958 في خطوة لم يسبق لها مثيل على إمتداد الأمة العربية من النيل إلى الفرات ولتعم الفرحة مختلف الأقطار تحت شعار واحد (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) حيث تمت مبايعة الرئيس عبد الناصر ليتولى “رئاسة الوحدة” بين مصر وسوريا، وأعقب ذلك قيام الرئيس السوري شكري القوتلي بزيارة القاهرة ووقّع الرئيسان عبد الناصر والقوتلي إتفاق الوحدة التي نشأت في 22 شباط 1958.
وسارعت القوى الأجنبية والمعادية للتحرك بغية مواجهة هذه الوحدة غير المسبوقة. ويُذكر أن الحكومة السورية رفضت إثر ذلك عرضًا أمريكيًا بتقديم 400 مليون دولار، أي أربعة أضعاف حجم موازنة الدولة السورية، مقابل السلام مع إسرائيل وكسر الحلف مع عبد ناصر، كما أعلنت إذاعة دمشق في الوقت ذاته إحباط مؤامرة إمريكية للانقلاب على حكم القوتلي وأرسلت مصر قوات إلى سورية وإلى ميناء اللاذقية في 11 أيلول بعد توتر العلاقات بين سوريا وتركيا، التي هددت بغزو سوريا نفسها وضم حلب، متهمة نظام القوتلي بتهديد الأمن القومي التركي من خلال تحالفه مع الاتحاد السوفييتي، ومنذ ذلك الحين والعرب في كل مكان يلمسون هذا الموقف المعادي من قِبل أميركا والغرب ضد هذه الوحدة الأم.
وإزداد غيظ الغرب مع الإحتفالات التي إندفعت في مختلف شوارع دمشق التي غصّت بالوفود من لبنان ومن مختلف المدن والبلدات العربية التي حطّت رحالها في سوق الحميدية والأحياء المجاورة وتعالت الأناشيد والأغاني الوطنية والشعبية ومنها الشعار التالي: (من موسكي لسوق الحميدية / أنا عارْفة السكة لِوَحدية) من إنشودة مصرية إنتشرت يوم ذاك وكان لها مفعول الأناشيد الوطنية في كل أرجاء الوطن.
وكم كان الموقف مؤثراً حين تدفقت الجماهير الوطنية في شوارع الشام القديمة يوم أمس من كل الأعمار في مشهد إستعادوا فيه عظمة الأمس وتلك الوطنية ومشاعر العروبة حين إندفعت الجماهير لتردد هذا الشعار الذي سرعان ما تردد في العاصمة نظرا لمضمونه ولمعانيه ولاسيما في هذه اللحظات التي تمر بها أمتنا العربية في أعقاب جرائم العصر التي عصفت بالبلد الشقيق وبانت اليوم بحقائقها الأمر الذي دفع المتواجدين والمشاركين إلى ترداد هذه الإنشودة دون أن تكف عن ذرف الدموع.
ولا أدري كيف إستعادت ذاكرتي تلك الأيام التي كنت خلالها مع بعض الرفاق والاصدقاء نقوم بزيارات إلى المدن العربية المجاورة وبصورة خاصة إلى مدينة تدمر في ريف حمص المشهورة بمراكزها التراثية والسياحية وإستعدنا بالذاكرة إحدى هذه الزيارات التي تعرفنا في إحداها بمسؤول عن سجن البلدة وخلال مبادلتنا للحوار حول الأوضاع آنذاك التي كتمتها وشعرت اليوم مدى أهميتها وصحتها، حين سرد علينا هذا المسؤول بعض الأساليب المتبعة في هذا السجن، واليوم نشعر مدى الآلام وأشكال التعذيب والتفنّن بها لمعاقبة السجناء وفق توصيف القائمين على السجن وإن كنا آنذاك لا ندري خطورتها وتأثيراتها وأنها وبشكل مختصر بعيدة عن المشاعر الإنسانية ونُدرك أننا يوم ذاك سالت دموعنا وبالإمكان القول أنها تشبه إلى حد كبير أساليب التعذيب التي تكشفت عن ممارسات النظام في سائر سجونه وكنا على يقين بأن أحدا من ذلك السجن لن ولم يخرج حيّا تماما كما هي المشاهد والمعلومات عن جرائم التعذيب وإزددنا شعورا بالغضب حين علمنا أنه يُطلق على ذاك السجن أنه (الأكثر فظاعة وظلما) كما يسميه السوريون فلم يخرج أحد وهو حيّ، وآلمنا أن مسؤول السجن آنذاك (كان فخورا بهذه الأعمال الشائنة).