في ضوء ما يجري حولنا من صراعات مسلّحة قاسية، وأخرى اقتصادية واجتماعية شبه مزمنة، كثير منها يؤشر إلى خلل فادح في موازين القوى في الإقليم، نلاحظ أن هناك وجهات نظر متضاربة إلى حدّ التناقض تواجهنا يومياً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، لتفسير تلك الأحداث، سواء في الوسائل المغلقة (كجماعات الواتساب) أو المفتوحة، في عدد من المنصات المختلفة، بالصورة أو بالكلام.
في خضمّ تلك الموجة التي تذهب بالمتابع شرقاً وغرباً، مشوِّشة الأفكار وفارضة وجهة نظرها دون دليل، تُطرح قضايا كثيرة، بعضها ثقافي أو اجتماعي أو سياسي، خارج السياق، كثير منها منافٍ للعقل، دافعها عشق مرضي للذات.
الملاحظ أن هناك البعض الذي يفتح عدسة هاتفه النقّال، ويقدّم للناس لمحة تكبر أو تصغر من عاهاته العقلية، فيتمّ شتم الشعوب قاطبة وبالجملة دون تحديد، ويزدري الثقافات الأخرى ويقوم بالتهديد بالويل والثبور من قبل تلك الدولة التي ستحضر لمسح المنطقة عن آخرها، وأنّ أخرى سوف تحتلّ وتُدمّر!! زاد من هذا الوباء قدرة غير مسبوقة للتقنية على اختلاق القصص والصور التي تستفز المتلقي، ويقبلها دون أيّ مناقشة.
أمام الموجة العاتية تلك نرى تجريحاً قبيحاً في الأشخاص، واتهامات لا أساس لها في السياسات بل وتعريض أعراض الآخرين وشخصياتهم للتحقير، واستخدام ألفاظ قبيحة لوصف الآخر، خاصة المختلِف في الرأي.
قد يرى البعض أن مثل تلك الموجات أيضاً تظهر في مجتمعات أخرى، وقد يكون ذلك صحيحاً كلياً أو جزئياً، ولكنّ الأكثر صدقية أنّه منتشر بشكل مرضي في فضائنا العربي، وخاصة في السنوات الأخيرة، وهي التي جلبت معها معادلة العجز والتصحر الفكري معاً.
مجموعة وازنة ممّن يظهرون على وسائل التواصل الحديثة، ويقدمون معلومات أو آراء هم في الحقيقة يحتاجون إلى معالج نفسي، فبعضهم يحمل أمراضاً نفسية لا تخفى.
الأمراض أو الاضطرابات النفسية أنواع، تمّت دراستها لعقود من السنين. ويرى المتخصصون، كما تقول لنا أدبيات الصحة العالمية، أنّ واحداً من كلّ ثمانية أشخاص في العالم مصاب بنوع شديد أو خفيف من أنواع الاضطرابات النفسية. وتنطوي الاضطرابات النفسية على اختلالات جسيمة في التفكير أو ضبط المشاعر أو السلوك التي قد تنفلت دون حواجز، وهذا ما تسهله وسائل الإعلام الحديثة والشخصية، ويؤدّي إلى صدام بين الشخص ومجتمعه. ومن الاضطرابات النفسية مثلاً ما يعرف باضطراب ما بعد الصدمة، وهي أن الشخص أو الأشخاص الذين يشحون يومياً، ولوقت طويل، بأفكار تعلّي من قوة مجموعتهم وقدراتهم الجمعية على مواجهة عدو ما، تترسّخ تلك الفكرة في أذهانهم، كمثال أفراد “حزب الله” في لبنان، الذين قال لهم الحزب إنّه الحامي والمدافع عن بيئته، وفجأة بعد أن يحصل الصدام، يكتشف بعضهم أن كلّ ما قيل لهم كان خيالاً وأوهاماً، فيصابون بالصدمة التي تجعلهم غير قادرين على التحكّم بمشاعرهم، ويتجهون إمّا إلى إنكار الواقع، وهم لا يصدّقون ما يرون من نتيجة، بل يتوجهون ليتحدثوا عن الانتصار وهزيمة العدو، أو يصرفون طاقتهم في شتم الآخر ووضع كل أسباب الخسائر والتهجير على ذلك الآخر. وكذلك في غزة مثلاً حيث يقوم البعض بشتم الآخرين البعيدين، كونهم السبب في كل ما يعاني من أهوال، ويترك فحص الأسباب الرئيسية في أصل معاناته من تلك الأهوال.
ما نشاهد اليوم في وسائل التواصل هو انفلات في عدم ضبط المشاعر، إمّا بسبب عدم القدرة على فهم ما يجري حول الشخص، أو إعاقة نفسية بسبب كرب شديد، كمثل الحروب والصراعات.
“متعة” الغضب من الآخر تؤدّي إلى زيادة في الثرثرة، وفقدان التركيز، وسرعة الانفعال. ولأنّ الإعلام التقليدي له ميكانيزمات يسمّيها أهل الاختصاص “حارس البوابة”، أي أنّ هناك من يقرأ ويزن ما يقال من باب القانون المرعي والتقاليد الاجتماعية والأوضاع السياسية، فهي الأكثر انضباطاً من الإعلام الإلكتروني الحديث، حيث يصاب المختلّ في الشخصية بتصرّف غير طبيعي دافعه الشهرة أو التشهير، فينشر كلاماً خارج سياق العقل ساذجاً وطفولياً، لذلك فإنّ هذه الشريحة لا يعالجها الردع القانوني، بل تحتاج إلى علاج للاضطرابات النفسية التي تعانيها.