اختارت إدارة معرض القاهرة للكتاب “روايات المنفى والهجرة والغربة” عنواناً للقاء المفتوح الذي نظمته مع الروائية اللبنانية هدى بركات، إلا أنها أصرت منذ البداية على نفي صفة الأديبة المهجرية عنها لأن كل مفهوم أدب الهجرة أو المنفى اختلف في نظرها. قالت إن نهج المهجرين هو الإقامة في النوستالجيا والإطلالة على التراث الجميل للبلد الأم، وهي لا تضع نفسها في هذا الإطار “أنا لم ينفِني أحد، ولا أحد يمنعني من العودة إلى بلدي”، هي بعكسهم تكتب “عن أناس يكرهون بلدانهم، غادروها ولا يريدون العودة إليها بأي ثمن” بعدما أصبح الوطن ليس ذلك المكان الجميل الذي نريد العودة إليه بل “جرحاً ومأساة نحملها على أكتافنا ونسير بها درب الالام”.
مكان الجرح
قالت إنها ربما كانت من أوائل العرب وغير العرب ممن التفتوا إلى هؤلاء الذين لم يعودوا يحبون بلادهم ذلك الحب الذي كنا نقرأ عنه، بعدما تحول مكان الطفولة الجميل لمكان الجرح الذي نريد أن ننساه، وندفع الأثمان الباهظة لأننا لا نريد الإقامة فيه. ولم يكن ذلك مخططاً أو وفق رؤية مستقبلية تفرض الالتزام بقضية محددة، بل فرضه إحساس الغربة الذي بدأت به رحلة الكتابة. كتبت “حجر الضحك”، روايتها الأولى، في بيروت، وعندما صدرت كانت قد أصبحت مهاجرة في باريس “بدأت أشعر أني لا أشبه بيروت، لم أعد أشبه هذه الحرب، لا أشبه الميليشيات والتعصب والأحزاب المتقاتلة”. بدأ شعور الغربة ينمو داخلياً قبل تنفيذه فعلياً، ولم تكن فكرة الهجرة قد اتضحت بعد في رأسها، أرادت فقط الابتعاد عن المدينة “أبتعد عن الخراب والجنون الذي لم أعد أجد معه أي مبرر للبقاء”.
حين ذهبت إلى فرنسا لم يكن لديها أي مشروع، لا على المستوى الشخصي ولا على المستوى المهني، لكنها شيئاً فشيئاً وجدت نفسها غير قادرة على العودة وأصبحت ترجئها باستمرار، فنما إحساس بالغربة لازمها حتى الآن: “من ينظر من قرب لما أكتب وما كتبت، سيشعر دائماً أن هذه المرأة لديها إحساس بالغربة، أكانت مقيمة بيننا أو في أي بلد من بلدان العالم”.
جيل الانتكاسات
حرّكها لكتابة “بريد الليل” الهم الكبير الذي أثقلها بعد رؤية الأعداد الهائلة من المهاجرين المرفوضين من الغرب، وكأنها تمر من خلالها على الشواطئ العربية التي يقذف منها الشباب بأنفسهم إلى المجهول، ورغم ذلك تؤكد أنها ليست مع استيعاب الجميع في فرنسا، ولا تدافع عنهم حتى في الرواية. لكن هذا غير محتمل بالنسبة إليها من الناحية الإنسانية “هذه الشريحة من البشر، الذين يسيرون على غير هدى، ألا نتوقف قليلاً للنظر لهم؟ كلنا غرباء، لكن هؤلاء لا أحد يريد الاعتراف بغربتهم”. تجسيد فعلي للنماذج المهمشة التي تبحث عنها منذ بدأت الكتابة، تشدها وكأنها تسمع أصوات أصحابها، مع وعي باختلافها عن الأجيال السابقة في رؤيتها للبطل، الموكل بالقيام بأعمال بطولية خارقة، ثقافية أو سياسية، أو الدفاع عن حقيقة أو قضية يعتبرها ذات أهمية، البطل المبشر بالحقيقة، كمرشد أو نبي. فهي تفكر في اتجاه آخر، منذ أول أعمالها والمهمش هو من لديه ما يقوله، هو الذي يعكس لعبة المرايا الحقيقية، والواقع لا يكتمل إلا بصوته: “ولدت ونشأت في جيل الانتكاسات، كانت الأفكار تتكسر مثل الأمواج، كأن حرب لبنان اختبرت الأفكار الكبيرة وفشل هذه الأفكار”.
لذا كان يجب أن يأتي الوقت الذي تختلف فيه النظرة للبطل، بل أن “نتوقف عن تمجيد الأبطال” أو هذا النوع القديم من الأبطال على الأقل. من جانبها حولته لشكل من أشكال الدفاع عن الأخلاق وليس عن الفكرة السياسية، وتفسّر: “المنظومة التراتبية التي أؤمن بها ليست سياسية وهذا ما اختلفت فيه مع من سبقني، كان هناك من يكتب الرواية الشيوعية أو رواية قول الحقيقة للجماهير، أو الرواية الفلسطينية أو القومية العربية، أنا جئت في مرحلة هبط فيها ذلك كله وأصبحنا في حاجة لمساءلته، عصر قلق وليس عصر حقائق حتى يكون البطل راويَ حقائق”.
العربية بيتي
في إجابتها على سؤال حول عدم كتابتها بالفرنسية رغم إجادتها، قالت هدى بركات إنها لا تكتب الروايات إلا بالعربية، ليس فقط لأنها لغة حبها وشوقها وحياتها، ولا لأنها دفعت ثمنها غالياً وتعلمتها بنفسها، لكن لأن هناك شحنة عاطفية ووجدانية لا تريد أن تكتبها بالفرنسية، لأنها في هذه الحالة ستكتب نصاً مختلفاً لا تريده حتى ولو كان سيجعلها أكثر شهرة وانتشاراً: “خيار الفرانكوفونية خيار شبه سياسي، هناك كتاب يتقنون العربية لكنهم يريدون الكتابة بالفرنسية.. أنا في الاتجاه المعاكس”. أصبح التعلق بالعربية شيئاً من عميق انتمائها: “هاجرتُ وتغربتُ وتكسرت أشياء كثيرة، والعربية آخر ما تبقى لي كأنها أصبحت بيتي”، حتى انها ترفض التحدث بالفرنسية في بعض المحافل التي تدعى إليها وتقول إنها ستتحدث بلغتها الأم التي دعيت بسببها.
لا تتفق أيضاً مع اعتقاد البعض بأن اللغات الأجنبية تفتح آفاق العالمية، وترى أن تأفف الكتّاب العرب من صعوبة الترجمة من العربية وقلّتها مسألة مبالغ فيها، فالطريق إلى العالمية في رأيها لا تمر بالترجمة، بل “تمر بجودة الكتابة والاستمرار فيها”.