وقّعت وزيرة الخارجية والمغتربين، بالتكليف، زينة عكر، مذكّرة إدارية إلى موظفي السلك الدبلوماسي بتاريخ 3 آب ورد فيها: «بعدما تعدّدت الطلبات المقدّمة من بعض الدبلوماسيين للوضع بالاستيداع أو الوضع المؤقت خارج الملاك أو طلب إجازة دون راتب، نوجّه الانتباه إلى أنّه قد يؤثّر هذا الوضع على شمول المعنيين به في أي مناقلات إلى الخارج في المستقبل». تُخبر عكر الدبلوماسيين أنّ التشكيلات المستقبلية إلى البعثات في الخارج، لن تشمل الحالات المذكورة في المذكرة، التي صدرت بعدما تقدّم خمسة دبلوماسيين من الإدارة المركزية في بيروت بطلبات للتوقّف عن عملهم، وإمكانية أن يرتفع العدد في الأسابيع المقبلة، وقد لمّحت إليه عكر في مذكرتها واستبقته عبر استخدامها عبارة «بعدما تعدّدت الطلبات». ما يواجهه السلك الدبلوماسي تهديد حقيقي، فـ«مَن تقدّم بطلبات استيداع وتوقّف مؤقت عن الخدمة هم من أصحاب الكفاءات»، يقول مسؤولون في الوزارة. يحصل ذلك في وقت أصلاً السلك فيه يُعاني من الترهّل على المستويات كافة، ويحتاج إلى نفضة في الخطاب والموقف السياسي وكيفية التعبير عنه، وتحديث الإدارة، وتدريب الدبلوماسيين لجعلهم أكثر فعالية.

حالات الخروج من «الخارجية» تشبه ما يجري في مؤسسات عامة أخرى، إن كان في الأسلاك العسكرية والأمنية أو في إدارات الدولة. لكنّ الدبلوماسيين يعتبرون أنّ وضعهم يتمايز عن بقية الإدارات لثلاثة أسباب. أولاً، ومنذ حوالى سنتين، حوّلتهم السلطة السياسية إلى «موظفين إداريين» بالمعنى التقليدي، في حين أنّ «وظيفتنا ليست إدارية بحت، ونُكلّف بمهمة دبلوماسية/ سياسية». التقدّم إلى السلك والفوز بامتحان الخدمة المدنية «يعني حصولنا على حقّ التدرّج والتعيين في الخارج والتنقّل بين مختلف المراكز الدبلوماسية». ثانياً، أنهى كلّ الدبلوماسيين في الإدارة المركزية مدّة السنتين القانونية لخدمتهم فيها، مقابل انقضاء مهلة سفراء (10 سنوات) وقناصل (7 سنوات) في الخارج وباتت عودتهم ضرورية، ليتم التبديل مع زملائهم. منذ ولاية الوزير السابق ناصيف حتّى، لم يول الوزراء أولوية لهذا الملفّ، مُتذرعين بالظروف المالية للدولة وعدم وجود مجلس وزراء أصيل. لم تشذّ عكر عن هذا السياق، فقد سَمع الدبلوماسيون منها صراحةً عدم إمكانية إتمام التشكيلات في الوضع الراهن، سياسياً ومالياً، طالبةً منهم الانتظار لتبيان ما إذا كانت ستُشكّل حكومة جديدة أو تستمر حالة تصريف الأعمال، للبناء على الشيء مقتضاه. يقود ذلك إلى السبب الثالث، الانهيار المالي الذي أفقد رواتب الدبلوماسيين (العاملين في الإدارة المركزية في بيروت) قيمتها وعدم تصحيح أجورهم. صحيحٌ أنّهم بذلك لا يختلفون عن باقي موظفي القطاع العام، ولكن مقارنةً مع زملائهم في الخارج والملحقين الدبلوماسيين في البعثات، تظهر اللامساواة إن كان في الفرص الممنوحة (المناقلات) والأجر. لم يعد راتب الدبلوماسي (أثناء عمله في الإدارة في بيروت) يُساوي أكثر من 100 دولار أميركي، مقابل 10 آلاف دولار شهرياً للملحقين الاقتصاديين، و33 ألف دولار شهرياً كأعلى راتب دبلوماسي يتقاضاه السفير مصطفى أديب في برلين. الحلّ الذي ابتكرته عكر لتدني الرواتب، كان إرسال كتاب إلى البعثات في الخارج «تحثّهم» على «تبرّع» كل سفير بـ 200 دولار وكل دبلوماسي بـ 100 دولار لمساعدة الموظفين في الإدارة. ثغرات الاقتراح عديدة: أين ستُحفظ الأموال؟ وفق أي آلية ستُوزّع المبالغ على الموظفين؟ من يضمن استدامتها؟ هل هي هبة، وبالتالي تحتاج إلى موافقة من مجلس الوزراء؟ كيف سيتم التأكد من عدم تعامل العاملين في الإدارة بكيدية مع الدبلوماسيين الذين لا يُشاركون في التبرّع؟

ميزانية الوزارة ستكون تقشّفية من دون إقفال أي بعثة

في هذا الجوّ «المحنوق»، أتت مذكّرة عكر. دبلوماسيون كثر قابلوها بسلبية، مُعتبرين أنها «تهديد» لهم، وخاصةً أنّها لا تتوافق مع النظام الداخلي لوزارة الخارجية والمغتربين. فالمادة 50، المتعلقة بشروط الوضع خارج الملاك، تشرح أنّه «يجوز وضع الموظف مؤقتاً خارج الملاك لأجل إلحاقه بإحدى الإدارات العامة أو المؤسسات العامة أو البلديات أو شركات الاقتصاد المختلط اللبنانية أو المؤسسات الدولية أو الدول». هذا الموظف ينقطع عن تلقّي راتبه، لكنّه «يحتفظ بحقه في التدرج في ملاكه وبحقه في التقاعد أو تعويض الصرف»، ما ينطبق أيضاً على حالات الإجازة من دون راتب. أما المادة 52، فتُحدّد بأنّ الموظف الذي يوضع في الاستيداع «ينقطع عنه راتبه ويفقد حقّه في التدرّج وحساب التقاعد طيلة المدة التي يقضيها خارج الملاك». في الحالتين، لا يذكر النصّ خسارة الدبلوماسي حقّه في المناقلات، «لأنّه لا يوجد تعارض بين عدم احتساب درجات على الراتب وبين التعيينات في الخارج. حصل في حالات سابقة أن استثنت الإدارة دبلوماسيين من المناقلات لأسباب تأديبية»، يشرح دبلوماسيون. ويسألون بأنّه حتّى لو كانت المذكرة دقيقة، «ألا يُفترض تطبيق القانون من كلّ النواحي ويُحفظ حقّ الدبلوماسيين بالتشكيلات؟»
من جهتها، تؤكّد مصادر عكر أنّ المذكرة ليست تهديداً «بل تصبّ في مصلحة الدبلوماسيين لتذكيرهم بالقانون». وقد أُبلغ هؤلاء بأنّ سياسة الوزارة في المرحلة المقبلة هي «تقشفية من دون إقفال أي بعثة، فالوزيرة تبحث عن كيفية تخفيض التكاليف الخارجية، في وقتٍ أنّ التشكيلات ستُكبّدنا مصاريف إضافية». وقد راسلت عكر الدبلوماسيين في الخارج تطلب منهم معلومات حول مساحة البعثات وعدد الموظفين، تحضيراً لوضع ميزانية تقشفية، علماً بأنّ مصرف لبنان لا يزال يتأخر في إرسال الأموال والتكاليف اللازمة للبعثات، ما يؤثّر على عملهم، من دون أن تظهر خطة طوارئ لدى الوزارة لكيفية مواجهة توقّف «المركزي» نهائياً عن إرسال الدولارات. يُحاجج الدبلوماسيون بأنّ التشكيلات لا تكُبّد الإدارة أي مصاريف إضافية، «من سيلتحق بسفارة في الخارج، سيتسلّم موقع زميل سيعود إلى الإدارة المركزية. وليس ذنبنا حصول ترقيات عشوائية سابقاً وتنظيم دورات دبلوماسية بما يفوق قدرة الدولة على التحمّل».
المذكرة أشعلت النار الخامدة بين عكر وقسم من الدبلوماسيين الذين يتحدّثون عن «معطيات تؤكد بأنّ الوزيرة تسلّمت مهامها بموقف سلبي مُسبق تجاه السلك، بأنّنا لا نعمل والإدارة غير فعّالة، وهي التي ستُعيد إليها الانتظام». برز ذلك عبر «حصرها التواقيع الإدارية بها، بعدما كانت موزّعة بين الأمين العام والمديرين، وعدم التنسيق مع جميع مديري الوحدات، وطلب الاجتماع مع السفيرتين الأميركية والفرنسية من دون حضور أحد من الإدارة المركزية، واجتماعات أخرى تطلب من الدبلوماسيين المحليين الانسحاب من الاجتماع». إلا أنّ مصادر الوزيرة تنفي ما يُشاع، مُعتبرةً إياه صادراً عن جهة واحدة داخل الوزارة مُتضرّرة من «الإجراءات التصحيحية» التي اتّخذتها، ومنها تنفيذ قرارات مُعلقة «لم تُنفّذها الجهة المتضررة سابقاً لموقفها الشخصي من بعض الدبلوماسيين، فهكذا كانت تسير الأمور داخل الوزارة». أما بشكل عام، «فالمديرون مُرتاحون للعمل مع عكر، والتنسيق معهم جميعاً يومي. يُضاف إليهم رؤساء البعثات في الخارج الذين فُعّل التواصل معهم بعدما لم يكن أحدٌ يردّ عليهم، وراسلناهم بأنّ كلّ معاملاتهم العالقة ستُبحث وتُدرس ويصلهم الجواب عليها قريباً». ماذا عن الاجتماعات المنفردة مع السفراء الغربيين؟ «لم يحصل ذلك إلا مرة واحدة بناءً على طلب السفير الضيف»، تقول مصادر عكر، رافضةً تحديد هوية السفير. وتُعقّب: «ألا يحقّ للوزير الاجتماع مع السفراء؟». كلّا، لأنّه يعقد اجتماعات معهم بصفته الرسمية وينقل موقف الدولة وينبغي تدوين المحاضر. تردّ مصادر عكر بأنّه «خلال ذلك الاجتماع، دوّنت هي الملاحظات وحوّلتها إلى المعنيين لكتابة المحضر».