من يأسِر سُنّة لبنان في زجاجة سعد الحريري؟
قاسم يوسف – السبت 24 تموز 2021 |
ما هذا الهراء؟ متى استحالت رئاسة الحكومة حقّاً حصرياً لهذا أو ذاك؟ متى صار السنّة في لبنان حزباً شمولياً؟ متى تحوّلوا جميعاً إلى أرقام في لعبة الوكالات الحصرية؟ ثمّ ماذا يعني مثلاً أن يعتذر الرئيس المكلّف بعد ثمانية أشهر من المراوحة والمواجهة المرتبكة، ثم يكون ممرّاً حتميّاً لأيّ تكليف جديد؟ وماذا يعني أن نختصر سُنّة لبنان وتاريخهم ونضالاتهم وتجذّرهم ووطنيّتهم وأوجاعهم وأحلامهم برجل واحد وفكرة واحدة؟
لا شيء يُعطي سعد الحريري الحصرية السياسية لطائفة خلاّقة وولاّدة، ولا شيء يُلزم السنّة بهذا النوع من الاستسلام والأسر المستفزّ. فشرعية نجيب ميقاتي تستند إلى مقعده المتقدّم في زعامة طرابلس لا إلى غطاء سعد الحريري
ثمّة محاولات حثيثة لترسيخ هذه الأباطيل ضمن الوعي الجماعي لسنّة لبنان، بل واعتبارها أمراً واقعاً لا فكاك منه، وهي في الحقيقة إرهاصات فتّاكة تبعث على كثير من الريبة والقلق. أصل الريبة يتّصل بالإصرار على دفع الكثرة الكاثرة من اللبنانيين إلى الاستسلام للمعادلة المدمّرة والشاذّة التي تقوم على منطق حكم الأقوياء في طوائفهم، وفي حالتنا هذا افتراض مسبق، فيما يتمحور القلق ويتعاظم نتيجة الارتصاف المجنون وغير المحسوب خلف تثبيت الحصرية السياسية لشخص بعينه فوق رقبة طائفة بقدّها وقديدها. حيث لا يصحّ ولا يجوز أن يتقدّم أيّ اسم لشغل أيّ منصب استناداً إلى خبرته وحنكته وحكمته وسيرته الذاتية والوطنية، بل انطلاقاً من الغطاء الشخصي الذي تعطيه المرجعية السياسية، وهذا تماماً ما نشهد فصوله المتتالية على نحو فاقع، أقلّه منذ استقالة سعد الحريري عقب انتفاضة 17 تشرين.
وفي مراجعة سريعة لتطوّر الأحداث، يتبيّن أنّ المرحلة، التي بدأها سعد الحريري بإبعاد ممنهج لكلّ أسماء المرشّحين المحتملين، ثمّ بعزل حسان دياب وتطويقه، ثمّ بالوصاية الواضحة والإشراف المباشر على تشكيلة مصطفى أديب، ثمّ بقفزه إلى المقدّمة كمرشّح وحيد لتشكيل الحكومة، ثمّ باعتذاره وانسحابه، شكّلت جميعها أساساً عميقاً لرفع السقف السياسي نحو منتهاه من جهة، ولتفريغ الساحة برمّتها من الخيارات والبدائل المقبولة من جهة أخرى، بحيث تصير القاعدة على الشكل الآتي: إمّا سعد الحريري شخصيّاً، وإمّا مَن يدعمه الرجل ويرتضيه، وهذا بحدّ ذاته يؤسّس لمفترق خطير ولطامة كبرى، ليس لكونه مدعاة للرجعية والاضمحلال والتصحّر وحسب، بل لأنّه يتنافى تماماً مع السرديّة التاريخية والوطنية، ومع الحيويّة السياسية والاجتماعية لسنّة لبنان.
سياسات سعد الحريري لا تستند إلى بوصلة ثابتة أو واضحة المعالم، ولا إلى خطاب مبدئي وقضية مركزية لا تقبل المسّ. فالرجل لم يتورّع عن إبرام صفقة تلو تسوية تلو تنازل، ولو على حساب قضيّته وقضيّة أهله وناسه
هذا كلّه في الشكل، أمّا الكارثة الكبرى فتكمن في المضمون، ومن نافل القول إنّ سياسات سعد الحريري لا تستند إلى بوصلة ثابتة أو واضحة المعالم، ولا إلى خطاب مبدئي وقضية مركزية لا تقبل المسّ. فالرجل انتقل من ضفّة إلى ضفّة. لم يتورّع عن إبرام صفقة تلو تسوية تلو تنازل، ولو على حساب قضيّته وقضيّة أهله وناسه. وجميعنا يذكر الانتقال الرشيق من الإبراء المستحيل والاشتباك الطاحن مع ميشال عون وتيّاره، إلى الصفقة الرئاسية والتناغم السياسي والشخصي على وقع المنافع المتبادلة والمصالح الضيّقة، وصولاً إلى التحالف الانتخابي الذي تبلور عبر أبشع المشهديّات وأكثرها استفزازاً في تاريخ لبنان، وجميعنا يحفظ عن ظهر قلب تلك العبارة الشهيرة التي جُبِلت بالدونيّة والخزي والابتذال: انتخبوا صديقي جبران نائباً عن البترون. بوجه مَن يا تُرى؟ بوجه رجل استثنائي وحليف شجاع يُدعى بطرس حرب. يا للهول. بل يا للعار.
في المضمون أيضاً زاوية هائلة مخصّصة حصراً لحزب الله. ذاك الذي واجهناه ووقفنا في وجهه وقفة رجل واحد. لم نأبه لسطوته وقوّته وتفوّقه، ولم نجزع أمام سمفونيّات الترهيب والذبح وشلّالات الدم. لنعود وندرك أنّ المصالح والمواقع أهمّ من القضية، وأهمّ من الشهداء، وأهمّ من الحق، وأهمّ من الحقيقة. أمّا الاشتباكات الخجولة، فهي لا تعدو كونها عدّة الشغل، كلّما استدعت الشعبوية أو اقترب موسم الانتخاب.
لا شيء يُعطي سعد الحريري الحصرية السياسية لطائفة خلاّقة وولاّدة، ولا شيء يُلزم السنّة بهذا النوع من الاستسلام والأسر المستفزّ. فشرعية نجيب ميقاتي تستند إلى مقعده المتقدّم في زعامة طرابلس لا إلى غطاء سعد الحريري. وشرعية نواف سلام مستقاة من بيروتيّته وألمعيّته وفرادته ومقاومته وحسن سيرته وصلابته السياسية والوطنية، وهو في ذلك أقرب ما يكون إلى السنّة وإلى تاريخهم وإرثهم ومستقبلهم ووجدانهم وأحلامهم وتطلّعهم نحو دولة عادلة وقادرة وسيّدة وحرّة ومستقلّة.
إقرأ أيضاً: شرشحة مدروسة لموقع رئيس مجلس الوزراء
هذه الحقائق لن يُغيِّرها فجورٌ من هنا أو تحاملٌ من هناك، ولن يمسّها متطاول أو شتّام أو منجرف خلف عصبيّة أو منفعة. فسُنّة لبنان لا يختصرهم ولا يعبّر عنهم حفنة من المستزلمين وركّاب الدرّاجات النارية الذين يتحرّكون كالدمى. ولا تختصرهم ولا تعبّر عنهم أيضاً مجموعات الذباب الإلكتروني الذين يجترّون الكلام نفسه والحقد نفسه وغرفة العمليات نفسها. هؤلاء ليسوا سنّة لبنان. وليسوا اختصاراً لهم. وليسوا عنواناً من عناوينهم. وليسوا حتى هامشاً من هوامشهم. لكلّ طحين نخالة، وهم بكل بساطة نخالة قومهم