كنت أسمع عن النكبة. اليوم شفتها… تركت بيتي بالنبطية بس جبت معي المفتاح”.
– بادية هاني فحص
في ليلة العصف الجوي الإسرائيلي المجنون على الجنوب اللبناني، غادرت أفواج من الجنوبيين منازلهم، وحملت الكاتبة بادية فحص معها مفتاح بيتها. ولا غرابة، فهذا أمر طبيعي في كل آن، وفي كل ظرف. أما اللافت، فهي هذه العبارة البسيطة جداً، والمعبّرة عن ذاكرة لصيقة بوجداننا، بما تثيره من تداعيات مؤلمة عن تاريخ من النكبات المتكررة. وأولها صور من النكبة الفلسطينية، وحمْلُ الفلسطينيين مفاتيحهم في جيوبهم لفتح الأبواب، بعد عودتهم المؤقتة التي طال أمدها، ولم تحصل. قرأتْ بادية وسمعت، وتعاطفت مع الفلسطيني الذي استجار بأهلها وأبناء بلدتها، وهم اقرب الجيران له، وأكثرهم ودّا وتفهماً لمعاناته، ولكنها لم تختبر من قبل مثل هذا الشعور الممضّ، باقتلاع المرء من جذوره وذاكرته، وغيابه عن ماضيه.
ربما كانت تستغرب إصراره على تشبّثه بمفتاحه المعدني الصدئ الذي لم يعد يفتح باباً، لأنه لم يعد موجوداً. مفتاح تخلى عنه الشاعر محمود درويش:
“لا ترجعيه إلي ولا تفتحي الباب. لن تجدي شبحاً واقفاً في انتظارك. لن تجدي غير سطر على الباب: صار الفتى حجراً”. قالها درويش وغادر الأرض.
ما فتئ المفتاح جزءاً من المخيال الجمعي الذي لا ينفصل عن موروثاتنا الشعبية وقيمنا الأخلاقية وعاداتنا. بل إنه في لاوعي اللاجئ الفلسطيني يحمل مغزى رمزياً مضاعفاً ذا دلالة على الذاكرة والهوية وحلم العودة. تحوّل المفتاح إلى تعويذة سحرية، تشبّث بها العجوز الفلسطيني الذي تجرّع مرارات التهجير، وتوالي النكبات. وحسِب أنه بامتلاكه مفتاح البيت يمتلك حق العودة إليه. كما عدّه من الثروات الثمينة التي تنتقل من جيل الأباء إلى جيل الأبناء.
بل إن الحاج الثمانيني عبد المجيد ابو سرور يروي لمراسل الجزيرة في مخيم “عايدة” بالضفة الغربية انه عندما غادر منزله لم يتمكن من أخذ المفتاح معه، فاضطر إلى المبيت تحت الأشجار في محيط القرية نحو أسبوع، ليخاطر في ما بعد بنفسه، ويعود الى المنزل قبل تدميره، فيغلق الباب، ويأخذ المفتاح على أمل العودة إليه التي طالت إلي أجل غير محدد.
غير أن النكسات توالت، واضطرت الفلسطيني “نوفل” المتشبث بمفتاح النكبة الذي ورثه العام 1948 عن أجداده المهجرين من قرية الحليقات، أن يضم الى سلسلة مفاتيحه مفتاحاً آخر. كما يقول لمراسل “أشوسيتد برس”.
وغدا المفتاح الفلسطيني أيقونة حديثة أُدرجت في سياق الظواهر الاستعراضية المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي. حيث انتشر “هاشتاغ” باسم “مفتاح العودة” وعلّق على الصور المتداولة مستخدمون عرب وفلسطينيون بالقول: “الصدأ على المفتاح أطول من عمر الكيان”. بل جرى صنع نموذج لمفتاح ضخم، في سياق مسابقات التنافس على الأرقام القياسية التي تجريها موسوعة غينيس، وقد فاز بالفعل بالمنافسة التي أجريت بمناسبة الذكرى الـ68 للنكبة، لتكرّسه المفتاح الاكبر في العالم من حيث المقاييس المفروضة، لكنه في أذهان العرب والفلسطينيين رمز لحقّ أقرّ به العالم، عندما اختاروه دون سواه.
لا يمكن للعقل الشعبي والرأي العام ان يفلتا من قبضة المغالاة المتمثلة بالرموز الموروثة، حتى في أعرق البلدان والحضارات. مثل الأعلام، والأناشيد الوطنية، والشعارات، وصور الزعماء والرؤساء والقادة. ومهما كانت بعض الرموز مستهلكة، فلا مناص من استخدامها كأحد العناصر الملحّة لصناعة الثقافة السياسية التي تغذّي الرأي العام، بإثارة المشاعر التي تهون أمامها الكلفة الباهظة التي تدفعها كضريبة، ويفرضها الشعور بالكبرياء وإرادة الصمود والبقاء. لا سيما في لحظات المحن والأزمات الطارئة، وتهديد المصير. كما هو حاصل اليوم، حيث يدور صراع رمزي، الى جانب الصراع العسكري بيننا وبين العدو، حتى على تسميات الأمكنة عينها من مدن وبلدات وآثار. بل إن خطاب العداء بين الطرفين الذي يتشابه بمحموله الديني، إلا انه يختلف عنه باللفظ.
كان من البديهي على الفلسطيني أن يحمل مفتاح بيته ليعود اليه بعد حين، مزهواً بنصر كان موعوداً به. أو هو وعد نفسه به، بحكم ما كان يسمعه عن نصرة الأخوة والأشقاء لبعضهم بعضاً، في السراء والضراء. وبحكم ما تواتر على مسامعه من عِظم ما يستحوذون عليه من إمكانات، وعزيمة لا يفلّها الحديد. واستعدادات لتبديد صفوف المرتزقة والعصابات المجتمعة على الباطل، في وجه من يمتلك ناصية الحق.
أغلق العدو الأبواب والطرق على عودة من يريد العودة. رمى مفاتيحنا المثقلة بموروث من الخيبات، والهزائم، وعبارة: “لو”، ننقلها ككلمة سر من جيل الى جيل. وأعدّ الأقفال الالكترونية والمفاتيح المشفّرة. شفرات قاتلة، وشفرات تكشف ما حجبناه من خيبات عن أنفسنا، لم نقرّ بها.