شعار ناشطون

معرض بيروت للكتاب: تبدّل طقوس القراءة وعلاقتنا بالأشياء

23/05/25 11:40 am

<span dir="ltr">23/05/25 11:40 am</span>

 

 

ا

يصعب وصف علاقة القارئ أو الزائر، بالكتب، في معرض بيروت الدولي للكتاب(66) في هذه المرحلة: ما بعد سقوط الأسد، وهول حرب الإسناد ومخاض بيروت، و7 أكتوبر وانبعاث المعارض الإقليمية. ربّما هي علاقة ملتبسة، اغترابية، باردة، عادية، مرتجّة، خاوية، خالية من الشغف، مرتجلة، نوستالجية، جامحة، بغض النظر عن “نق” أصحاب دور النشر المزمن عن غياب القارئ وموته بالمعنى السوسيولوجي. فهذا “النق” في جانب منه، بات لغواً وعمره عشرات السنين. لكن الطوفان التكنولوجي والمعلوماتي والآن الذكاء الاصطناعي، بدّل فعلاً في علاقة المدينة بالمعرض، قلّص علاقة الأجيال بالورق والحبر، وإن كان المعرض يستقبل آلاف الطلاب من مختلف الأعمار، يتجولون ويخرجون بعنوان أو إثنين بدلاً من مونة سنوية من الكتب.

 

في الزيارة التي قمت بهما إلى المعرض، شعرتُ بتبدّل الأشياء أو بتبدل علاقتي بالأشياء والأمكنة والأشخاص والكتب. ثمّة انقلاب في المزاج. طفح ذكريات لأشخاص غادروا، وامتلاء من الكتب. لم تقلّ قراءاتي عموماً، لكن طقسها تبدل. لقد انتهى زمن البطء، والركون إلى شاشة اللابتوب هو الوجهة الجديدة. قراءة عشرات المواضيع، ومشاهدة مئات الأفلام القصيرة، أمور تساهم بقوة في تهميش دور الكتاب وشكله.

 

في زيارتي الأولى إلى المعرض، ركنتُ السيارة في مرآب قريب جداً من البحر، وتقصدت ركنها في هذا المكان لأرى الزرقة العميقة. مشهد فيه شيء من التصوف والانفراج والتأمل والسفر الروحي. مشهد يستدعي الجلوس واحتساء القهوة وحتى القراءة والنوم. أمشي نحو قاعة سي سايد. ورغم علاقتي التاريخية بالمعرض من أيام الصالة الزجاجية في الحمراء، ورغم زياراتي المتكرّرة له في كل موسم، أشعر في لحظة بالضياع والاغتراب، بضيق الخلق، ربما يرتبط الأمر بالزيارة الأولى. أشخاص ألتقيهم، ألقي عليهم السلام، وأشخاص أتجنبهم، أتفادى لقاءهم، وأشخاص أفتقدهم، جيل كامل أسس لثقافة بيروت أصبح شبه غائب.

 

أسمع من أحد العاملين عبارة أن المعرض أقيم في غير أوانه، إذ أتى بالتزامن مع الانتخابات البلدية والاختيارية. ثمة أيام خلت من الزائرين. أتجول قليلاً في الممرات، أحاول رصد الدور وغائية المعرض، بالطبع هناك الكثير من الدور العربية واللبنانية، وهناك دور جديدة. الغائبون لهم تفسيرهم، والحاضرون يبحثون عن أفقهم. ثمة كتب مصرية عن المطربين والمطربات، بحثت عنها لأغراض بحثية ولم أجدها. فشلتُ في إقناع نفسي بشراء الكتب الصادرة في بيروت، فكرتُ كثيراً أين سأضع الكتب الجديدة إذا ما حملتها. كل عنوان فكرت فيه، وضعت احتمال أن أجده في الانترنت. عدتُ خاوي الوفاض، ولاحظت أن أكثرية الكتب التي تباع تتربط بتوقيعات أو جائزة أو بهوية طائفية أو زعيم سياسي. “القراءات الديموقراطية”، إذ جاز التعبير، قليلة.

 

المعرض بحلّة جديدة وأنيقة، قاعات جيدة، بإسم إلياس خوري وأخرى بإسم توفيق الباشا، وملصقات قديمة على الجدران من جعبة عبودي أبو جودة ورسوم لفلسطين من تصميم كميل حوا، وصور من الذاكرة للنادي الثقافي العربي. لكن ثمة تبدّلاً في علاقة الزائر بالكتب. ثمة تبدل في أحوال الشراء، إذ لم يعُد الكثير من الكتب يباع من دون توقيع وحفلات من هنا وهناك، وهذا نمط من المجاملات الاجتماعية والأعراس.

 

ثمة وجوه ما زالت تعيش في عالم الكتاب. في التجول، يمكن لقاء المفكر علي حرب، والشاعر شوقي بزيع، والشاعر طارق نصرالدين، والمصور صالح الرفاعي، والباحث صقر أبو فخر، والفنان أسامة بعلبكي..الخ. ثمة أشخاص لديهم شغف الكتب القديمة، تاريخ طباعة الكتاب يجعله مقصد بعض القراء النخبويين. الكتاب هنا قيمته متحفية أكثر منها معرفية، إنه الامتياز والتمايز أن يضع المرء كتاب أكله السوس من القرن الثامن عشر في مكتبته.

 

المعرض في ألوانه وأطيافه وروافده يشبه بيروت، أو يشبه لبنان في تقلباته وإيديولوجياته، تنوع وتعدّد، عراقة وعمادة لكن بلا دور. لم يعد “واحة الحرية”، لم يعد مقصداً للكتاب الممنوع في زمن الانترنت والفايسبوك، صار “عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ”. لم يعد مقصداً للقارئ العربي، باعتبار أن كل البلدان أصبحت تنافس وتقيم معارضها المدعومة والواسعة… لم يعد هناك الكتاب الأكثر مبيعاً، ولا جيش الشباب الجامعي الذي يشارك في التنظيم. ليست المشكلة تنظيمية أو إدراية، وليست القضية مكابرة، إنها التحولات الثقافية التي بدلت علاقتنا بالأشياء، إنها شاشة اللابتوب أو الهاتف الجوال التي تحمل آلاف الكتب في ذاكرة صغيرة، بينما الكثير من الدور آتٍ من إيديولوجيات قديمة مختلفة. مات قارئ العروبيات، وتقلّص قارئ اليساريات، وذهب القارئ الديني إلى “غوغل”، وبرزت أحزاب بلا توجه ثقافي.

 

في معرض بيروت، بقايا مزيج من تيارات فكرية، وزعماتية أو مؤسساتية أو جامعية. دور كثيرة، قومية سورية أو على هامش القومية، تقدّس أنطون سعادة وطريقه. دور كثيرة إيرانية الهوى. دور تحتفي بالرموز الشيعية، فضل الله، موسى الصدر، حسن نصرالله أو تدور في فلك حزب الله. دور كثيرة فقدت دورها وعلاقتها بالقارئ وتضع اللوم على المعرض. دور تعتمد الاستسهال في إصدار الكتب من دون حسيب أو رقيب. دور تحافظ على عراقتها. شخصيات سياسية كثيرة لها تياراتها وكتبها.

 

في المعرض في صورة لحسن نصرالله مع عبارة مقاومة بالفارسية. ومع أن هَول ما حصل ويحصل في المنطقة لم يتجلَّ بعد في كتب فكرية، لكن ثمة بوادر خجولة تنحو في هذا الاتجاه. سؤال “الأممية الشيعية إلى أين؟” بات حاضراً، وهو عنوان كتاب لعلي حرب، وثمة عنوان آخر يقارب القضية من باب “أنا شيعي عربي”، ولم يعد غريباً وجود عناوين مثل “سقوط حزب الله” بعد زمن من عناوين “جمهورية حزب الله”. يقرأ الزائر هذه العناوين ويعرف أن جزءاً كبيراً من جمهور المعرض، من بيئة حزب الله، والذي ربما يكون من أكثر التنظيمات اللبنانية المنجذبة إلى مطبوعات تخصها، في مقابل تراجع الأيديولوجيات الأخرى، بل تلاشيها.

 

جولة أولى في المعرض، ومن دون إطراء: برنامج ثقافي دسم ومتنوع، يغطي مساحة واسعة من الأفكار والمواضيع والمناسبات، من أم كلثوم إلى توفيق الباشا، من فؤاد سليمان إلى الياس خوري، ومن أمين الريحاني إلى سليمان البستاني، ومن جورج قرم إلى يواكيم مبارك، ومن اللغة إلى الموسيقى، ومن الاقتصاد إلى الذكاء الاصطناعي.

 

ما نقوله مجرد انطباع شخصي عن معرض عريق، بات في حاجة فعلية إ

لى جانب من دعم الدولة اللبنانية.

تابعنا عبر