شعار ناشطون

مروان نجار… الدراما اللبنانية يتيمة الأب المجدد

14/02/23 05:13 pm

<span dir="ltr">14/02/23 05:13 pm</span>

المركزية- أن تغيب عن المسرح وتنطفئ عن وجهك أضواء الكاميرات لا يعني أبدا أن اسمك بات في مهب النسيان. لأن هناك ما هو أكبر وأهم من الضوضاء الاعلامية الغدارة: القلم والورقة اللذان يحفظان إبداعا لا يبخل أصحابه به على جيل من المشاهدين وذواقي الفن المسرحي في فترة العز اللبناني، الذي لم يخطر في بال أحد أنه سيتحول إلى جهنم يتقلب بنيرانها الناس من دون أن يعرفوا إلى الفرج سبيلا.

هكذا هو الكاتب المسرحي والتلفزيوني الكبير مروان نجار، الذي خسر في يوم عيد الحب معركة كبيرة مع مرض عضال، في بلد تلاعبت السياسة وزواريبها بأبنائه إلى حد أن مرضى السرطان باتوا في سباق مع الزمن للحصول على الدواء لا لشيء إلا لصون حقهم في كسب الحرب ضد المرض الفتاك الكامن لهم على كوع الحياة. لكن الشعوب التي على شاكلتنا اعتادت أن تبحث عن العزاء وتجده في مكان آخر. فالتجارب القاسية والكثيرة مع الغياب، علمتنا أن الله لا يدع ناسه ومؤمنيه من دون مبدعين يعرفون كيف يتركون خلفهم عطر الذكرى الطيبة بما يحفر اسمهم في حنايا الذاكرة الجماعية  لسنوات. ولا أحد يشك في أن مروان نجار لا يشذ أبدا عن هذه القاعدة.

فالرجل أكثر من مجرد كاتب تمرس في اللغة العربية وقرر خوض تجربة الكتابة الدرامية والمسرحية على مدى سنوات. مروان نجار هو الاسم الذي رافق نهضة القطاع الفني والمسرحي في مرحلة ما بعد الحرب، إلى حد أن جيلا كاملا ممن أنعم عليهم الله بأنهم ولدوا بعد انتهاء حرب الآخرين، تسمّر لسنوات أمام الشاشة الصغيرة يشاهد مسلسلات كثيرة كتبها وأنتجها نجار، مكتشفا كثيرا من المواهب التي صارت اليوم في مصاف كبار نجوم التمثيل والدراما، من دون أن تغيب عن باله الاستعانة بعدد من مخضرمي عالم المسرح والتلفزيون والسينما.  ذلك أن الأرشيف التلفزيوني اللبناني يحفظ بالخط العريض اسم المسلسل الطويل “طالبين القرب” الذي كتبه مروان نجار وعرضته المؤسسة اللبنانية للإرسال (مع العلم أن كل المحطات التلفزيونية أو على الأقل غالبيتها نهلت من مخزونه الدرامي)  في تسعينيات القرن الماضي. أمام عيون آلاف المشاهدين، كتب نجار عشرات قصص الحب في إطار هذا المسلسل الذي كان محطة انطلاق  كثير من أهم أسماء الشاشة الفضية، مثل باسم مغنية، وبديع أبو شقرا وبيتر سمعان  وزياد سعيد وفيفيان انطونيوس وسواهم. وغني عن القول أيضا إن “طالبين القرب” شهد تجربة تلفزيونية ناجحة جدا للفنانة كارول سماحة، نجمة مسرح الكبير منصور الرحباني في ذلك الحين. لكن أهم ما في “طالبين القرب” يكمن بالتأكيد في أنه قدم إلى الناس ثنائيات درامية عادت وكررت تجربتها في أعمال لاحقة. فمن منا لا يتذكر الكيمياء الفريدة التي جمعت الممثلة فيفيان أنطونيوس بزميلها يورغو شلهوب (الذي تربطه صلة قرابة بمروان نجار) اللذين اجتمعا لاحقا في بطولة فيلم “مشوار” من كتابه نجار أيضا، بينما قدم أبو شقرا فيلم “أحبيني” الذي كتبه نجار أيضا إلى جانب فيفيان أنطونيوس، تماما كما هي الحال مع مسلسل “خطوة حب”.

على أن صفحة نجومية مروان نجار لا يمكن أن تختصر بمسلسل “طالبين القرب”. فلا أحد يشك في أن “من أحلى بيوت راس بيروت” يعد نقطة مضيئة في مسيرة الراحل الذي سيحتضنه تراب الكورة إلى الأبد اعتبارا من يوم غد. وفي هذا السياق، لا بد من الاشارة إلى أن أهمية “من أحلى بيوت راس بيروت” تكمن أيضا في تسليط الضوء على عدد من المواهب الشابة (مع العلم أن كثيرا من نجوم المسلسل عاد وابتعد عن الساحة الفنية)، كما على بعض الممثلين ممن تجاوزوا عمر الشباب. حيث لعبة القديرة رندا كعدي دور البطولة في هذا المسلسل، فكانت “نجوى”، الأم الحنون والأرملة، صاحبة البيت الكبير الذي يفتح أمام الطلاب الجامعيين للسكن فيه. في هذا الاطار، تطرق نجار إلى كبريات القضايا الاجتماعية، كقانون الأحوال الشخصية وحق الأم في حضانة أطفالها القصّر، وتلك التي تعني الشباب مثل آفة المخدرات والتسرّب المدرسي، ومرحلة المراهقة المطبوعة بالعلاقات المتوترة مع الأهل على وقع صراع الأجيال. قضية لا غرابة في أن يفرد لها نجار مسلسلا كاملا وهو المتخصص في علم النفس التربوي (وتحديدا علم النفس لدى المراهقين)  واستمر مروان نجار في التطرق إلى العلاقة الجدلية مع الأهل في مسلسل “بنت الحي”، في موازاة كتابة المسرحيات في زمن كان فيه المسرح الغنائي الرحباني الجاذب الأول لمتذوقي هذا النوع من الفنون. فولدت “عريسين مدري من وين” من بطولة الممثل الكوميدي الراحل بيار شمعون. على أن هذه الوقفة مع خشبة المسرح وعليها، معطوفة على الوقفة الاستثنائية مع البرنامج الثقافي “المتفوقون” – الذي سجل نجاحا كاسحا-  لم تنجح في إبعاد الكاتب الراحل والناقد الدرامي عن الشاشة الفضية بعد غياب. عودة أرادها أن تكون ذات طابع سياسي من خلال مسلسل “حلم آذار” الذي كان يعد جريئا في زمانه، كيف لا، وهو الذي تناول فترة الاغتيالات السياسية ونظرة الشباب إليها، كما إلى التنوع الديني في لبنان. وإذا كان المسلسل انطلق من محاولة أغتيال النائب مروان حمادة وتوقف طويلا عند أغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن كثيرا من المراقبين ربطوا ذلك بما قيل عن تأييد نجار لسياسة الرئيس الحريري. تأويلات وتفسيرات أدار لها الراحل الأذن الصماء تاركا هذا السر في قلبه، وهو اليوم سر ذهب مع الريح إلى ما وراء البحار والسماوات.

على أي حال، فإن هذا الجدل البيزنطي حول الانتماء السياسي لمروان نجار لم يجعله يضيّع البوصلة يوما. فالمعركة واضحة المعالم والأهداف: إغناء المكتبة الدرامية بالنجوم والنصوص. هكذا ولد الدور الأشهر على الاطلاق في مسيرة الممثلة كارول الحاج، “مريانا” الفتاة القروية القوية الآتية إلى بيروت بحثا عن الرزق، لتصطدم بعائلة غنية في بيتها سر جريمة كبيرة. مسلسل أعاد المخرج المسرحي جيرار أفيديسيان إلى الشاشة، تماما كما هي حال مسلسل “حصاد المواسم” الذي أدى بطولته باسم مغنية وهند باز، إلى جانب الممثل القدير عبد المجيد مجذوب العائد إلى الدراما من أمجاد أعمال أنطوان غندور ووجيه رضوان، مع الثنائي هند أبي اللمع وأنطوان ريمي، بينما كرّس مسلسل “الطاغية” الراحل ميشال تابت بطلا تلفزيونيا في عمر السبعين، ومتفوقا أول في أداء أدوار الشر المكتوبة باتقان. وبعدها قدم الراحل مسلسل “مؤبد” مع بديع أبو شقرا وباتريسيا نمور، ليختم مسيرته بمسلسل “سكت الورق” بمشاركة عدد من النجوم الذين لمعوا تحت أضواء مروان نجار يوما.

لا شك في أن الكاتب الذي يغيب اليوم لم يكن يعلم أن الورق سيسكت  بعد هذا المسلسل، على وقع انتقال الأضواء من مروان نجار إلى  كتاب آخرين يعتبرون أن ساعة شهرتهم دقت أيضا… اليوم “سكت الورق” والقلم والتلفزيون في منزل مروان نجار. لكن الأكيد أن الذاكرة الشعبية الدرامية لن تسكت أبدا قبل أن تفي مروان نجار حقه، متكئة على أرشيف من ساعات تلفزيونية طويلة تتيح لأجيال وأجيال من المشاهدين نهل بعض من نهر مروان نجار الغزير.

تابعنا عبر