
يشتمل ديوان “أكثر من متاهة لكائنٍ وحيد” (دار الأدهم – القاهرة) للشاعر المصري محمد السيد إسماعيل، على 23 قصيدة قصيرة، كُتبت بين عامي 2015 و2024، بينها قصيدة وردت في موضعين تحت عنوان “سدرة المنتهى”، وهو خطأ يُسأل عنه الناشر ربما بأكثر ما يُسأل عنه الشاعر الذي يرجّح أنه عمل على النص نفسه مرتين فأحدث فيه في المرة الثانية اختلافات طفيفة في المحتوى وأبقى على العنوان. الموضع الأول (ص 6) مؤرخ في 20 / 4 / 2018، والموضع الثاني (ص 35)، مؤرخ في 24 / 3 / 2018. أي أن “الثانية” سبقت “الأولى” زمنياً بـ 26 يوماً. وأحدث ترتيب القصائد في الديوان الذي جاء في 55 صفحة من القطع الوسط، ما يمكن اعتباره بناء دائرياً لمجمل المتن، رغم فاصل زمني بين البداية والنهاية يصل إلى 9 سنوات. فالقصيدة الأولى مؤرخة في 20 / 7 / 2018، والأخيرة مؤرخة في 24 / 7 / 2024. في السنة الأولى قصيدة واحدة، هي أولى قصائد الديوان وفي السنة الأخيرة 7 قصائد، بينها آخر قصائد الديوان.
القصيدة الأولى عنوانها “آثار النداء”، والأخيرة “اليد التي أعرفها”. في الأولى يتجلى شعور الذات الشاعرة بالوحدة: “أصنع غرفة على أطراف المدينة ولا أبرحها / لعل نجمة تائهة تتبع آثار النداء / لعل طيفاً عابراً يطرق بابي الصغير” (ص 4)، مع بارقة أمل، تتبدى في الأخير، بعد اجتياز متاهات عديدة، سراباً، أو يداً افتراضية تشدّ الكائن الوحيد عنوة إلى ذلك القاع العميق، الذي تخرج منه يدٌ يعرفها (ص 49).
تنوّع الضمائر
تتنوّع الضمائر ما بين الغائب والمخاطب والمتكلم، أحياناً في القصيدة الواحدة، كما في “آثار النداء” التي تبدأ بـ : “لم تكن الأميرةُ مجرّد نجمة تائهة / ولا طيفاً عابراً طرَق بابَك الصغير / …. / ليلتها أمسكتُ باليد البعيدة”. وتتكرر في ديوان “أكثر من متاهة لكائن وحيد مفردة “اليد” وما يرتبط بها من مفردات كثيراً. قد تكون رحيمة كما في القصيدة الأولى، وقد تكون مهلكة كما في القصيدة الأخيرة؛ على سبيل المثال. قد تكون مادية محسوسة، وقد تكون رمزية كما في القصيدتين الأولى والأخيرة أيضاً. يقول: “أناملك بيضاء / أناملي عاشقة / أناملك وسادةٌ للجريح… وأنت لي بيضاء بغير سوء” (ص 40). هنا يختلط المحسوس بالرمزي، في ما يتعلق بمفردة الأنامل التي هي جزء من اليد. وهنا تحضر اليد كناية في تعبير “بيضاء من غير سوء”، الذي يحيل إلى ما ورد في القرآن الكريم في وصف يد النبي موسى بعد أن يخرجها من جيبه، لتتجسد واحدة من معجزات نبوته التي سيواجه بها فرعون وملأه لاحقاً: “وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء” (من الآية 12 سورة النمل). وهكذا يبدو الشاعر وكأنه يستكمل حالة شعورية سبق أن تجلّت في ديوانه “يد بيضاء” الصادر عام 2023 عن دار “أروقة” في القاهرة، وربما ترجع بداياتها إلى ديوانه الأول “كائنات تنتظر البعث” الصادر عام 1993 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
على طريقة المتصوّفة
يتوالى التناصّ في معظم قصائد الديوان، خصوصاً مع النصّ القرآني المقدس، على نحو يبدو فيه تقنية مقصودة لذاتها لتوليد شعرية لا تخلو من المفارقة. عنوان “سدرة المنتهى” المشار إليه آنفاً، هو تعبير ورد في سورة النجم، لوصف شجرة تعتبر آخر ما يمكن أن يبلغه النبي (صلى الله عليه وسلم) لدى العروج إلى السماء، لكنه يعتبر بالنسبة إلى غيره أمراً بعيد المنال، وهو ما عبَّرت عنه الحالة الشعورية في هذا الديوان، بشكل عام، والتي تقوم على ديمومة وحدة الذات الشاعرة الموصوفة بمفردة “كائن” للتدليل إلى أنها مجرد “شيء”، أكثر من كونها إنساناً من جسد وروح، ومشاعر تفتقر إلى من يأبه لها، في ظلّ محاصرتها بأكثر من متاهة. وفي أكثر من موضع يخاطب الشاعر محبوبته على طريقة المتصوفة: “… وأنتِ كلَّ ساعة في شأن”، متناصاً مع قوله تعالى: “كلَّ يوم هو في شأن”، وهو جزء من الآية 19 في سورة الرحمن. والذي قيل إنه نزل في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً. لكنه في الديوان الذي بين أيدينا يدل على الحيرة إزاء محبوبة لا تستقرّ على حال، حتى لتبدو بعيدة المنال بما أنّها “أميرة، “تملك ما لا عين رأت”، فيما طالب وصلها يرى الحياة “أشبه بقبضة في الهواء”.
متاهات فلسفيّة
وتكرّر الذات الشاعرة في غير قصيدة تعبير “أن أرى ما لا عين رأت”، للدلالة إلى أمنية بعيدة المنال إلّا بالنسبة إلى من بلغوا مرتبة رفيعة من التصوف الذي هو عند البعض عشق إلهي على طريقة رابعة العدوية، والحلاج وابن الفارض، مثلاً. وهذا التعبير في بعده المقدس هو وصف للجنة، وفي السياق الشعري هنا يتناصّ مع رسالة لبولس الرسول: “بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ”. ومع وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي سياق آخر، وتحديداً في قصيدة “الباب الوحيد”، تتمنى الذات الشاعرة العيش في ما يشبه الكهف، على طريقة الرهبان، “عشر سنوات متتابعة / حراً / فقط أتأمّل العالم بعينين ثابتتين”، وهنا تبدو الوحدة وما تتيحه من مساحات للتأمّل “عندها يختفي العالم”، منشودة لا مفروضة.
وفي قصيدة اليد التي أعرفها” أيضاً يردّ قول الشاعر: “لماذا أخشى أن أتحوّل إلى عمود ملح”، وفيه تناصّ مع ما عوقبت به امرأة لوط، حين نظرت وراءها. ويقول إسماعيل في القصيدة نفسها متناصاً مع النصّ المقدّس: “لم امتلك أبداً هذه الشجاعة البلهاء حتى أنظر ورائي في غضب” ص 47. أمّا قوله: “أين يمضي هاربٌ من دمه”، فيتناصّ مع قول إبراهيم ناجي في قصيدة له: “ليت شعري أين منه مهربي / أين يمضي هارب من دمه؟”. وهنا كما نلاحظ استمرار لشعرية التناصّ، في بعد محدّد وهو طلب المحال، ما يعزّز الشعور بالوحدة والغرق في متاهات فلسفية بلا انتهاء، في ظلّ واقع من مفرداته نهر “قد غاض ماؤه”، وأرض “تقطَّعت من أطرافها” ومعوذون “في بطونهم مرض”، ويدان “مغلولتان”.