كتبت إيناس شرّي في “الشرق الأوسط”:
تحوَّل عدد من شوارع لبنان أخيراً إلى مواقف انتظار. مئات السيّارات تصطف يومياً في طوابير تبدأ من محطات الوقود ولا تنتهي على بعد مئات الأمتار، وكلّ ذلك بهدف الحصول على صفيحة بنزين واحدة، في حال كان المواطن محظوظاً، ووصل دوره قبل نفاد الكمية.
«أقف هنا منذ ساعتين وأكثر، والآن تخبرني بأنّ البنزين قد نفد»، تقول سيدة بصوت مرتفع غاضب متوجهة إلى عامل على محطة الوقود، فضياع ساعات انتظارها سدى أفقدها صوابها، ولم تتقبّل أن يخبرها عامل المحطة وعلى بُعد سيارتين من وصول دورها بأن مخزون البنزين عنده قد نفد.
تروي هذه السيدة لـ«الشرق الأوسط» أنها تضطر إلى الانتظار لساعات طويلة أمام المحطة مرتين في الأسبوع، وأنّها تشاجرت مع مديرها في العمل منذ أيام لأنها تأخرت عن دوامها بسبب انتظار البنزين، «زوّدوا سياراتكم بالبنزين خارج دوام العمل، نحن غير مسؤولين عن أزمة البنزين قال لي مديري مهددا بخصم التأخر من راتبي» تقول، مضيفة: «مع العلم أن معظم المحطات تقفل عند الظهر أو في أحسن الأحوال الساعة الرابعة بعد الظهر، أي قبل أن أُنهي دوام عملي».
في طابور انتظار البنزين وعلى إحدى محطات الوقود في بيروت يقف مواطن مسن يمسح عرقه بين الحين والآخر، يحمل ورقة يستعملها كمهواة علّها تخفّف عنه حرّ الصيف.
«حتى زمن الحرب لم نُذلّ هكذا، لا أستطيع أن أشعل المكيف خلال ساعات الانتظار فهو يصرف الكثير من البنزين ونحن نتسوّل النقطة»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، مضيفاً أنّه جاء ليزوّد سيارة ابنته بالوقود بعدما أوصلها إلى عملها، وأنّه ينتظر منذ الساعة السابعة صباحاً ولا يزال أمامه على الأقل نصف ساعة انتظاراً، فهو يعرف أنّ دوره لن يأتي قبل الساعة العاشرة لأنّه حتى المواطن الذي يصل باكراً غالباً ما يجد أمامه عدداً كبيراً من السيارات لا سيما أنّ بعض المواطنين باتوا يركنون سياراتهم في المحطات ليلاً ليحجزوا دورهم باكراً، حسب قوله.
ويعيش لبنان منذ أشهر أزمة في شح المحروقات، إذ يشكو أصحاب المحطات من عدم تسلمهم من الموزعين الكميات التي تكفي السوق اللبنانية، الأمر الذي يُرجعه موزّعو المحروقات إلى تأخر مصرف لبنان في فتح الاعتمادات، مع العلم بأنّ المصرف أعلن مؤخراً في بيان أن كميات البنزين والمازوت والغاز المنزلي التي تم استيرادها خلال عام 2021 تمثل زيادة في حدود 10% عن الكميات المستوردة خلال الفترة عينها من عام 2019، مع الإشارة إلى أن الوضع كان طبيعياً وحركة الاقتصاد عموماً كانت أفضل حالاً من هذه السنة.
وتدرس الحكومة اللبنانية حالياً آلية ترشيد الدعم عن المواد الأساسية ومنها البنزين، وذلك لأنّ مصرف لبنان كان قد أعلن في أكثر من بيان أنّه لم يعد قادراً على الاستمرار بآلية دعم المواد الأساسية التي أطلقها نهاية عام 2019 مع بداية انهيار سعر الصرف والتي يمنح المصرف من خلالها 85% من دولار الاستيراد مقابل السعر الرسمي لمستوردي القمح والأدوية والمحروقات.
من بين السيارات التي تقف في انتظار الحصول على البنزين عشرات سيارات الأجرة التي كان أصحابها من أكثر المتأثرين بأزمة البنزين فنصف نهارهم يقضونه أمام المحطات ليؤمّنوا ما يكفيهم من وقود للعمل نصف النهار المتبقي والذي يضيع جزء كبير منه في زحمة السير التي تسبّبها طوابير البنزين في الشوارع الضيقة، كما يقول أحد السائقين، مضيفاً في حديث مع «الشرق الأوسط» أنّه لم تمرّ عليه ظروف كالتي يعيشها حالياً، فخروجه من المنزل للعمل على سيارة الأجرة بات «خسارة بخسارة» فما يتزوّد به من بنزين يضيع في زحمات السير والبحث عن زبون، لا سيما أنّه عادةً ما يكون العمل أفضل ساعات قبل الظهر والتي بات يقضيها على محطات الوقود.
ويُرجع بعض المراقبين تفاقم أزمة البنزين في لبنان إلى تخزين هذه المادة من التجار بهدف بيعها بعد رفع الدعم بأسعار مضاعفة، فضلاً عن التهريب المستمر إلى سوريا لا سيما أنّ وزير الطاقة والمياه ريمون غجر، كان قد أعلن أن السبب الأساسي للشح الحاصل في هذه المادة هو التهريب إلى خارج الأراضي اللبنانية بسبب الفرق في الأسعار بين لبنان وسوريا.
وأعلن غجر أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أبلغه قرار إيقاف الدعم، مشيراً إلى أن البديل هو البطاقة التمويلية، ولكن الأمر يحتاج إلى موافقة مجلس النواب. وأوضح غجر أنّه تمّ فتح 5 اعتمادات من مصرف لبنان وهي تكفي السوق 20 يوماً ولا بدّ من إيجاد حلول خلال هذه الفترة.
بعيداً عن ساعات الانتظار الطويلة في طوابير البنزين والتي بات اللبنانيون يطلقون عليها «طوابير الذلّ»، تحوّلت محطات الوقود إلى نقاط خطرة، إذ لا يكاد يمرّ يوم من دون حدوث مشكلات بين المواطنين أنفسهم على أفضلية التزود بالوقود أو بين المواطنين والعاملين على المحطات، وغالباً ما تتطوّر المشكلات إلى التضارب بالأيدي أو بالعصيّ أو حتى إلى إطلاق النار كما حصل أكثر من مرة، ما استوجب وقوف عناصر من القوى الأمنية على عدد من المحطات بهدف حفظ الأمن.
ومع تفاقم أزمة شح البنزين حاول بعض المواطنين الاستفادة عبر إيجاد فرص عمل جديدة من نوعها، إذ يقوم عدد من الشبان بالانتظار أمام محطات الوقود بدلاً من صاحب السيارة مقابل بدل مادي محدد، كما يقوم آخرون بملء دراجاتهم النارية بالبنزين والتي تتسع لكمية صغيرة جداً (نحو 10 ليترات) ومن ثمّ يبيعون البنزين لمن يرغب بأضعاف الثمن، كما يقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط»، مضيفاً أنّ صديقه ينتقل بدراجته النارية من محطة إلى أخرى ويبيع ليتر البنزين بـ10 آلاف ليرة بينما سعره على المحطة في حدود الألفين وأنّ معظم زبائنه من المغتربين اللبنانيين الذي يملكون الدولار ولا يتأثرون بانهيار قيمة الليرة.
وشرح هذا الشاب أن صديقه استطاع أن يجني خلال الشهر الماضي 900 ألف ليرة أي نحو ضعف الحد الأدنى للأجور، إلّا أنّ قيمة هذا المبلغ لا تتجاوز الـ60 دولاراً حالياً بسبب انهيار العملة المحلية ولكنّه يبقى «أفضل من لا شيء»، على حد تعبيره.
كما عمد بعض الباعة المتجولين إلى التمركز وسط طوابير البنزين لبيع الماء والقهوة والمرطبات أو حتى الكعك، كما أنّ عدداً من المطاعم أعلن أنّه يؤمّن خدمة التوصيل للمنتظرين على محطات البنزين.