
تخيّل نفسك جالساً إلى مكتبك تعمل بذهنٍ رائق، وفجأة تسيطر عليك حالة من التشتت وفقدان التركيز، ورغم جرعات الكافيين التي لا تتوقف، لا يبدو أنك قادر على استعادة تركيزك مجدداً. يشبه هذا الأمر محاولة إعادة تشغيل آلة معقّدة من دون مراعاة صيانتها أو حدود قدرتها.
هذا هو حال أدمغتنا عندما تواجه ضغوطاً متزايدة، من دون راحة تقريباً، وفي ظلّ عوامل تشتيت وإلهاء لا تنتهي؛ وأكثر من يتعرض لهذه التحديدات هم “أصحاب الياقات البيضاء” ممن يعملون في وظائف تتطلّب درجة عالية من الإبداع والمجهود الذهنيّ.
الطبيبة الإنكليزية، والباحثة في علم الأعصاب، ميثو ستوروني، تصدّت لهذه التحديات التي تواجه أدمغتنا، وألّفت كتاباً جديداً بعنوان “Hyperefficient” أو”الكفاءة الفائقة”، ويهدف لمساعدة أصحاب الوظائف التي تتطلّب مجهوداً ذهنياً عالياً على تحقيق أقصى استفادة من قدراتهم العقلية من دون الوقوع في فخّ الإرهاق المزمن.
في مقابلة حصرية مع “النهار”، تقول ستوروني عن كتابها الصادر في أيلول (سبتمبر) الفائت: “سعيتُ إلى تأليف كتاب رصين يحمل أفكاراً مبتكرة، لا يستطيع أيّ برنامج ذكاء اصطناعي مثل شات جي بي تي كتابتها”.
استفادت الطبيبة الإنكليزية من خلفيتها الطبية في فهم الأسس العصبية لعمليات الدماغ، وهو ما انعكس بوضوح على محتوى الكتاب. فهي ترى أن الاكتشافات المذهلة في علم الأعصاب كانت الدافع الرئيسي لإنجاز كتابها، حيث رغبت في مشاركة هذه المعرفة مع الجمهور.
بالإضافة إلى ذلك، كان لحالة الشلل التي شهدها العالم خلال جائحة كورونا أثر نفسي عميق على الناس، مما دفعها للتفكير في إيجاد طريقة مُثلى لمساعدة الأفراد على استثمار أوقاتهم بشكل أفضل.
وتوضح ستوروني بأن فكرة الكتاب تطوّرت في ذهنها تدريجياًَ: “كلّما مر الوقت، تبلورت لديّ أفكار جديدة أضفتها إليه. وفي سبيل ذلك خصصت ساعات محدّدة للكتابة كلّ صباح، أبدأ فيها من الخامسة والنصف أو السادسة حتى التاسعة، ثم أستأنف الكتابة من العاشرة حتى الواحدة ظهراً. كنت أغفو قليلاً بعد الغداء، وأنجز بعض الأعمال، ثمّ أعود للكتابة مساءً”.قانون القوة
تدعو ميثو ستوروني في كتابها إلى إعادة النظر في ثقافات العمل السائدة، والابتعاد عن نمط العمل التقليدي. وعند مطالعة الكتاب نجده يركّز على استراتيجية “العمل بإيقاعات متباينة”، التي تتضمن تغيير شدّة العمل مع وجود أوقات للراحة، بدلاً من العمل لساعات طويلة بشكل متّصل.
ويُعرف نمط العمل الذي تنادي به ستوروني بـ”قانون القوة”، حيث يعتمد على فترات من العمل المكثف تعقبها فترة راحة طويلة، بهدف الحفاظ على الطاقة وتقليل الإرهاق.
وقد تبنت مجتمعات الصيد وجمع الثمار قديماً هذا الإيقاع في العمل، إذ تظهر دراسة حول مجتمعات الهادزا البدائية في شمالي ووسط تنزانيا أن بحثهم عن الطعام، وفقاً لنهج “قانون القوة”، كان من اختيارهم، ولم تجبرهم عليه الظروف البيئية، مما يكشف عن أصول قديمة كامنة في الجينات البشرية.
امتدّ تأثير “قانون القوة” هذا إلى بعض الثدييات حديثة الولادة التي تتبع هذا النمط في نشاطها البدني ودورات نومها. ويتجلّى أيضاً في عادات عمل بعض الشخصيات المؤثرة تاريخياً، مثل داروين، وفرويد، وأينشتاين، الذين اعتمدوا فترات تركيز شديد تتبعها فترات راحة، مما عزّز قدرتهم على التفكير العميق والإبداع.
من هنا، تؤكد ستروني في كتابها على ضرورة اعتماد نموذج “قانون القوة” في بيئات العمل، أي الجهد المكثّف والراحة الكافية، ممّا يحمي من الإرهاق، ويحسّن القدرة على التفكير والعطاء، لأنه يتوافق مع طبيعتنا البشرية، ويقلّل من آثار الإجهاد المزمن.
التروس المعرفية
إذا فهمت طريقة عمل الأشياء، تكون أكثر قدرة على التعامل معها بالضرورة؛ ولفهم أدمغتنا أهمية فائقة، وهو ما يقودنا إلى مفهوم آخر تضمّنه كتاب الطبيبة الإنكليزية، أشارت إليه باسم “التروس المعرفية”، حيث ترى ستوروني أن هذا المفهوم يشجّع القرّاء على فهم الفرق بين الدّماغ والآلة، وكيفيّة عمل كلّ منهما.
وبحسب ما جاء في الكتاب، يمكن تشبيه العقل البشري بناقل الحركة في السيارة، حيث يمتلك الإنسان “تروس عقلية” مختلفة، تبلغ ثلاثة، وتحدّد مستوى تركيزنا وطريقة معالجتنا للمعلومات. يعدّ فهم هذه التروس، وكيفية التنقّل بينها، مفتاحاً مهماً لتحسين الأداء المعرفيّ وتحقيق أقصى استفادة من قدراتنا الذهنية.
وعند النظر إلى وظائف التروس الثلاثة، نجد أن في حالة الترس الأول ينغمس الدماغ في الهدوء العميق، حيث يتوقف عن معالجة المهام المعقدة، ويسمح للأفكار بالتجوال بحرية: تخيّل نفسك مستلقياً على شاطئ البحر، تراقب الغيوم وتستمع إلى صوت الأمواج. أنت إذن في الترس الأول، حيث ينتعش دماغك بالإبداع من دون قيود. وتعدّ هذه الحالة الذهنية مثالية لتعزيز الإلهام وتوليد الأفكار الجديدة.
أما إذا كنت تشعر بالتركيز والتيقظ، فأنت على الأرجح في الترس الثاني، حيث تصبح قشرة الفصّ الجبهيّ -مركز التحكّم في الدماغ- في أعلى مستويات نشاطها. عند هذه الحالة، يمكنك التركيز بقوة على مهمّتك وإنجازها بكفاءة عالية، سواء أكنت تقرأ كتاباً أو تحلّل بيانات أو تناقش فكرة جديدة.
لك أن تتخيلَ أيضاً أن دماغك هو محرّك سيارة سباق، وعند عتبة الترس الثاني، يصل هذا المحرك إلى أعلى سرعته، هنا تصبح أكثر قدرة على ربط الأفكار بطرق مبتكرة، وإيجاد حلول إبداعية لم تخطر لك على بال من قبل. وهنا يحفّزك الشغف والحماس على التعلّم والابتكار وتحدّي الصعاب.
لكن في بعض الأحيان، نحتاج إلى اتخاذ قرارات سريعة في ظروف حرجة. هنا يأتي دور الترس الثالث، حيث ينطلق دماغك بسرعة ليصدر أوامره بلمح البصر. قد لا تكون هذه القرارات مثالية دائماً، لكنها تساعدك على التعامل مع المواقف الطارئة والمفاجئة بفاعلية.آلية عمل التروس المعرفية
بعدما تعرّفنا على مفهوم التروس المعرفية كما شرحتها ستوروني، يتجلّى سؤال حول الطريقة التي يمكن بها التعرّف على الترس المعرفيّ الذي يسيطر عليك. راقب قدرتك على التركيز. إذا كنت قادراً على الحفاظ على تركيز جيد، فأنت على الأرجح في الترس الثاني. أما إذا واجهت صعوبة في التركيز، فقد تكون في الترس الأول أو الثالث، فيما يشير عدم التأثر بالمشتتات إلى الترس الأول، بينما يدلّ التأثر الشديد بها على الترس الثالث.
وبحسب كتاب “الكفاءة الفائقة” تضمن معرفة مستوى الترس العقليّ استدامة طاقتك العقلية، وتمنع الإرهاق، كما تعزز الإنتاجية بطريقة تتوافق مع تصميمنا العصبي، حيث يمكنك توجيه طاقتك الذهنية إلى المهام المناسبة، مما يحسن أداءك ويقلل من استنزاف طاقتك العقلية.
وعلى الرغم من أن كل شخص لديه القدرة على الوصول إلى التروس المعرفية، فإن القدرة على التنقل بينها تختلف من فردٍ لآخر؛ فلدى بعض الأشخاص “تروساً مرنة” تستجيب بسرعة للمحفّزات البسيطة مثل الأماكن الهادئة، بينما يمتلك آخرون “تروساً صلبة” تحتاج إلى تحدّيات كبيرة لتنشيطها مثل الأماكن الصاخبة، ومعظمنا يقع في مكان ما بين هذين النقيضين.
يُفسّر هذا الاختلاف، على سبيل المثال، سبب نشاط أحد المتداولين في البورصة في داخل قاعة تداول صاخبة، ووسط فوضى الأرقام الوامضة والضوضاء المستمرّة، حيث يحتاج إلى تلك الطاقة العالية للتركيز، بينما قد يعاني عالم رياضيات حذر في نفس البيئة ويتوق إلى مكتب هادئ ومنظّم.ضرورة الراحة
تشير الأبحاث إلى أن فترات الراحة تنشّط التركيز وقدرة الدماغ على الأداء المعرفي؛ على سبيل المثال: كشفت دراسة أُجريت على أطفال المدارس الدنماركية أن الأداء في الاختبارات المعيارية يتراجع مع كلّ ساعة تمضي من العمل المتواصل، بينما أدّت فترة راحة تتراوح ما بين 20 و30 دقيقة إلى تحسين الدرجات. هذا يثبت أن الراحة المنتظمة تعزّز الكفاءة المعرفيّة على مدار اليوم.
وبحسب ما ورد في كتاب ستوروني، يُنصح بعدم تجاوز وقت الراحة 90 دقيقة. في الوضع المثالي، تكون الراحة لمدة 15 إلى 25 دقيقة كافية لتحقيق الاسترخاء التام؛ أما إذا كنت تسعى للحفاظ على وتيرة وزخم العمل، فقد تكفيك راحة قصيرة تبلغ نحو 10 دقائق، مع ضرورة تعويضها بفترة راحة أطول لاحقاً.
وتشدّد ميثو ستوروني على أهمية القيلولة، باعتبارها طريقة فاعلة لاستعادة الطاقة العقلية، حيث يمكن للقيلولة القصيرة تعزيز اليقظة والأداء بشكلٍ كبير. لكن مدة القيلولة هي العامل الحاسم؛ فإذا طالت مدّتها، تكون ثمّة مخاطرة بالشعور بالدوار، وإذا قصرت أكثر من اللازم، فقد لا يتجدّد النشاط بالقدر الكافي.
ختاماً، تحدثت الطبيبة الإنكليزية عن التحديات التي واجهتها في تأليف هذا الكتاب، مشيرةً إلى أن أكبر تحدٍّ واجهها يكمن في طريقة ربط الأفكار المتنوّعة معاً بطريقة متناسقة وسلسة.
توضح: “من الصعب أحياناً سدّ الفجوة بين تصور الكاتب، والتصور الذي يمكن أن يصل للقارئ، خاصةً في الكتب المتخصّصة. فقد يعتقد الكاتب أنه يشرح كلّ شيء بوضوح، بينما يجد القارئ صعوبة في فهم بعض النقاط التي تبدو واضحة للكاتب”.
وأعربت ميثو ستوروني عن أملها في أن يُترجم كتابها للغات أخرى، لتصل رسالته إلى أكبر عدد من القراء حول العالم.