كتب الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر:
قَد يَخال للبعضُ أنَّ بَلدَنا يعيش اليوم انهيارا شاملاً، إلّا أنَّ ذلك ليس صحيحاً بعد. فبالرَّغم من فَظاعة الأزمة وتشعُّباتها، لا يزال لبنان يعاند الموت ويرفض ملامسة قعرٍ لم يعتَده. منذ بداية الأزمة الأخيرة ورغم اشتدادها، أظهَرَ اللبناني المُنهك قدرة على التحمُّل شكّلَت فاصلاً أخيراً بينه وبين الانهيار. من ناحيتها، أظهرت السياسة قدرتها على المناورة مما يبعد ساعة الصفر الانهياريَّة. أعطى القطاع الخاص بكل قطاعاته فترة سماح طويلة وصعبة رغم غياب الدولة واستبداد المصارف وانتشار الجائحة. أعالت أنصاف الرواتب العائلات وأعان الله مَن خسر الأنصاف وسائر خَلقه. تآكل حضور الدولة وفاعليتها وبقي هيكلها، تراجع الأمان وبقي الأمن، أغلقت المدارس ابوابها قسراً وبقيت الرسالة والرُسُل، تراءت الهجرة ولم تُحزم الحقائب، قرَّر العقل ورَفَضَ القلب، ازداد الألم فغلبه الأمل، أطلَّ اليأس فطرده الإيمان، استشرى الغش فتوعَّتده الاستقامة بالحساب يوماً ما.
جاء الداء فتصدَّت له الأيادي البيض وتَوَفَّرَ الدواء، أظلمت القلوب ولم تُظلم الليالي، شحَّ الزيت ولم ينطفئ القنديل. تطايرت أجزاء البلد في مساره الانحداريّ الخطير الّا انَّه لم يندثر. لا، ما نعيش اليوم ليس انهيارا شاملاً بل آخر الجولات قبل الارتطام والتناثر أو ربما قبل الانطلاق الى الحياة. أعطى الشعب فرصةً غير مُستَحَقَّة لمن لا يمتلكون أهليةً للحُكم. نَخَرَ الفساد العقول كما الخزينة. إنهمك الساسة بالصغائر من صلاحياتٍ وتصفية حسابات. بات البلد رهينة الندم والتعنُّت والغباوة تارةً، والنرجسيَّة والولدنة والأنانية المَرَضيَّة طَوراً ورهينة التعطيل دائماً. مَن لم تَصِله الدعوة إلى المغادرة بالصوت لَمَسَها بالفعل فبات التخوف من الانهيار الشامل حقيقةً مريعة نقترب منها دون أن نُسَلِّم بها.
الانهيار الشامل يومٌ يَشيخُ فيه المجتمع بعد هِجرة السواعد والعقول كما القلوب. يومٌ تعلِن فيه الدولة عدم قدرتها على تسديد رواتب القطاع العام واستبدال العملة من أجل زيادة الأصفار. يومٌ يسقط فيه الهيكل وَتُشَلُّ الدولة بوزارتها وجِهاتِها الضَّامنة فَيُكرَّس العنف والجريمة سبيلا للبقاء. يومٌ لا يبقى فيه طواقم صحية ودواء فيموت الناس مرضاً وقهراً. يومٌ تَفرَغُ فيه المدارس والجامعات من روّادها ومعلّميهم. يومٌ لن تُحَرِّكَ فيه المصارف ساكناً فهي في الانهيار الشامل منذ زمن وإن كانت لم تُفلس. يومٌ لا تضيء فيه إلا قصور الأغنياء ولا تسير فيه إلا مواكبهم. يومٌ يصبح فيه الغذاء خاضعاً لحكم السوق كما الحياة. الإنهيار الشامل يوم يعجز العلم والدراسات كما العرَّافين عن تحديده ولو حاولوا. ما أفسدته السياسة قد تُصلحه السياسة من خارج إطار الزمان والمكان فلا تَصدُقُ الأرقام. ليس الاقتصاد وراء أزمة لبنان بل السياسة ومِن ورائها الفساد والارتهان والزبائنيّة والكيديَّة والحِقد وحبُّ الذات. لبنان بلد مفتوح على كل الخيارات، على السقوط كما على النهوض. قد تَحمِل السياسة حلولاً تعالج أسباب الأزمة في بلدٍ يستضيف أزمات المنطقة ومحاوِرِها وشعوبها في حين يكتفي فلاسفة المال والمنصَّات والبطاقات والدعم والترشيد بعلاج النتائج سبيلا الى حلٍّ لن يُنجَز.
ليسَ الإجماع على أن أي حلٍّ لا بدَّ أن يبدأ بتشكيل حكومة إلا تأكيدٌ على أنَّ المشكلة في أساسها سياسيَّة وإن كانت ذات أبعاد ماليَّة واقتصاديَّة وإصلاحيَّة. أمَّا حكومة الحَلّ الموعود، فَعَليها أن تتحرر من السياسة التي تشكلها كما من الطوائف والمذاهب والأحزاب والانتماءات. تمثل إعادة انتظام العمل المؤسساتي البداية الحقيقية لأي حل ينطلق من مفهوم لبنان الدولة السيدِّة على اراضيها والحرَّة في قراراتها. لن تمتلك أيّ حكومة عصًا سحريًة تجعل من تشكيلها حلاً بحدّ ذاته. إلَّا أن أيَّ حلٍّ لن يستقيم قبل تشكيل حكومة تُمَثل أبناء لبنان وتفاوض صندوق النَّقد وتمتهن الإصلاح باسمهم. يجب ألّا يكون الموت قَدَراً يتولى العلم احتساب الأيام التي تفصلنا عنه. إن كان بين الإستقرار والإنهيار صبر، فَبَيْنَ “الإنهيار” و”الإنهيار الشَامل”… “ثورة”!