للمرة الأولى منذ أكثر من عقد ونصف عقد من الزمن، تسجّل باريس استداراتٍ جديدة مهمة ومؤثرة حيال لبنان. الأولى يوم وصل الرئيس جاك شيراك الى رئاسة الدولة عام 1995، فلم يعد يبصر لبنان إلا من خلال الرئيس رفيق الحريري وما يتطلّبه منه له ولسوريا. بدت باريس حينذاك كأنّها على طرف نقيض من اللبنانيين معارضي الحريري وسوريا في آن. ثم كانت الاستدارة الثانية عام 2005 على إثر صدور القرار 1559 ثم اغتيال الحريري، والانحياز مجدداً الى فريق داخلي ضد آخر هو قوى 14 آذار قبل أن ينطفئ هذا التحوّل. اليوم، دخلت مدار ثالث استداراتها بانقلابها على الطبقة السياسية الحاكمة التي وقفت الى جانبها منذ منتصف التسعينيات، بلا انقطاع، ودعمت خياراتها وغطت ارتكاباتها.

ما عنته الحصيلة الفعلية لزيارة وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لو دريان، على نحو كرّس ما قاله الرئيس إيمانويل ماكرون في زيارتيه في 6 آب ثم الأول من أيلول 2020، الرهان على المجتمع المدني. وجّهت زيارة الوزير رسالة الى الخارج أولاً مفادها التشبّث بالمبادرة الفرنسية بما لا تُشعر أحداً بأنها فشلت أو سقطت، وثانياً الى الداخل اللبناني في حواره الطويل مع ممثلي المجتمع المدني ظهر الخميس (6 أيار) بدعوتهم الى الاستعداد للانتخابات النيابية المقبلة، وقطع الطريق على أي تفكير أو جهد بتمديد ولاية البرلمان الحالي في أيار المقبل. أصغى لو دريان الى زواره هؤلاء بتمعّن، وسمع مداخلاتهم جميعاً، واحداً واحداً، وبينهم مَن استغرق في مداخلته، ومنحهم وقتاً أطول من الذي منحه لرئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي. بودٍّ وهدوء قال لهم: أنا معكم. استعدّوا للانتخابات. أنتم الرهان.
بيد أن المهم غير المعلن، لكن المنسوب الى الوفد الفرنسي المرافق للوزير، قوله إن إجراءات منع الدخول الى الأراضي الفرنسية لمَن تعدّهم باريس معرقلي تأليف الحكومة وفاسدين ــــ وإن بدت في الظاهر أنها غير موجعة لهؤلاء ــــ ستليها خطوات أكثر أهمية، في فرنسا قبل الذهاب الى الاتحاد الأوروبي، هي التعويل على المجتمع المدني اللبناني المناوئ للطبقة السياسية الحاكمة، وعلى مكتب محاماة داخل فرنسا، لرفع دعاوى ضد هؤلاء هناك، ومقاضاتهم بتهم الفساد بغية الوصول الى وضع اليد على أرصدتهم في المصارف الفرنسية، استكمالاً لتضييق الخناق عليهم، وتأكيد جدية ما تعتزم باريس المضيّ فيه لحماية مبادرتها والحؤول دون انهيار لبنان.
في يومي محادثاته في بيروت، قبيل مغادرته الى الخليج تحضيراً لزيارة ماكرون له، المؤجلة من الشهر الفائت، أوصل لو دريان الرسالة الصارمة التي استبق بها مجيئه الى لبنان.
ما قاله في لقائه الإعلامي لم يكن أكثر أهمية مما قاله في اللقاءات المغلقة، وخصوصاً بينه وبين عون وبرّي والرئيس المكلف سعد الحريري. قلّل الكلام عن المشكلة الحكومية، وأفرط في الحديث عن المساعدات الإنسانية للمجتمع اللبناني في شتى مناحيها. لكن القليل السياسي كان يستحق.
لرئيس البرلمان قال: نحن نقدّر جهودك ولا نعتبرك من المعرقلين، ونطلب منك الاستمرار في هذه الجهود. لكن ما يحزنني قوله، وكنت أود أن أقوله بسعادة، لكنني سأفعل بأسف. وصلنا الى يقين بأن المشكلة في لبنان داخلية، لا علاقة لها بالعوامل الخارجية بالقدر الذي يُصوّره البعض. لم أعثر إلا على كراهيات متبادلة مدمرة.

الحريري للو دريان: تعاملونني كأنّني أعرقل كالآخرين… لست مثلهم ولا أعطّل

انطوت العبارة الأخيرة على تعميم، أكثر منها حصر التهمة بالشخصين المعنيين المعلومين، وهما الحريري والنائب جبران باسيل. فُسّر كلام لو دريان أكثر شمولاً بإزاء ما أصغى اليه وبإزاء التقارير الدورية التي تمدّه بها السفارة الفرنسية في بيروت عن يوميات ما يجري في هذه البلاد. الأحزاب والكتل تكره بعضها بعضاً بما لا يحتمله عقل، بلا استثناء، كتيار المستقبل والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المردة وحركة أمل وحزب الله. تتساوى في تبادلها البغض والكراهية. لكل مع هؤلاء مشكلة أو عداء لا يرتويان.
تفادى لو دريان في مقابلته برّي الكلام عن الإجراءات المتخذة والعقوبات، بيد أنه لمّح الى مهلة مقيِّدة غير مفتوحة.
أما الاجتماع بالحريري، غير المُدرج في برنامجه منذ أُعلن عن مواعيده في بيروت، فأتى ابن ساعته. أطلق الحريري بداية شائعة اعتذاره المحتمل عن عدم تأليفه الحكومة، مصوّباً بها على الوزير الزائر وعلى الثنائي الشيعي الفريق الوحيد الذي يدعم ترؤسه الحكومة. سرعان ما تنادى الى الإفصاح عنها نوابه. في ساعات قليلة أثبتت عدم جدواها. على الأثر، وسّط الرئيس المكلف المصريين والإماراتيين لترتيب اجتماع بلو دريان الذي اضطرّ، بعد تواصل الدولتين به، مرغماً الى استجابة الوساطة.
كانت الإشارة السلبية الدالة على الاستجابة المرغمة، أن دعاه إليه في قصر الصنوبر. لم يستقبله كرئيس جدي للحكومة اللبنانية، مع أنه مكلّف تأليفها، وعامله على قدم المساواة مع ممثلي المجتمع المدني الذين استقبلهم في المقر نفسه دونما أن تكون لهم أي صفة رسمية. استقبل الوزير الفرنسي هؤلاء ظهراً، بينما حدد موعد الرئيس المكلف ليلاً في وقت يخف فيه الاهتمام بالحدث. لم يعامله على نحو مواز لرئيس الجمهورية ورئيس البرلمان عندما زارهما في مقرّيهما. لم يسرِ أيضاً التقليد المتّبع لدى بيت الحريري، منذ الأب الراحل، وهو أن الزائر الأجنبي الضيف ــــ فكيف إذا كان فرنسياً ممّن خلفوا شيراك؟ ــــ يتغدّى أو يتعشّى في قريطم أو بيت الوسط.
امتناع لو دريان عن الاجتماع بالحريري، بادئ بدء، عنى أنه يساويه برؤساء الكتل والأحزاب التي رفض اللقاء بها، وتعمّد نبذها، ما دامت تمثل الطبقة السياسية الموبوءة. حينما استقبله، كان على نحو أقل أهمية من ممثلي المجتمع المدني، رغم أن معلومات تحدثت عن لقاء آخر غير معلن عقده لو دريان مع ممثلي هيئات مدنية أخرى في أحد مطاعم بيروت، من غير التأكد منه، مع أن السفارة في بيروت هي صاحبة دعوة هؤلاء الى مقابلة الوزير.
في ما نُقل عن اجتماع قصر الصنوبر ليلاً، انزعاج أظهره الحريري لمضيفه هو الآتي: أنتم تعاملونني كأنني أعرقل، وكالآخرين المعرقلين. أنا لست مثلهم ولا أعطّل. قدمت مشروع حكومة ولم يقبلوا به. لا أعرف لماذا تعاملونني مثلهم؟
رد الوزير الفرنسي: نحن لا نتكلم عن تساوٍ في المسؤوليات، بل عن مسؤولية مشتركة. ليس لدينا سوى إصرارنا على ترجمة المبادرة الفرنسية بحكومة، ونحن مضطرّون الى اتخاذ إجراءات في حق معرقليها.
بحسب المطّلعين على اللقاء، تجنّب الحريري التحدّث في الإجراءات والتدابير العقابية الفرنسية، خشية أن يُفهم اهتمامه بها كأنه خائف من أن تطاوله.
على أن لو دريان دعاه الى استعجال تأليف الحكومة، قائلاً له إن عليه التمتع بدينامية سياسية في حركته: أنت المسؤول عن الحيوية السياسية في تأليف الحكومة.
بدورها، فُسِّرت العبارة الأخيرة على أنها دعوة للرئيس المكلف الى التخفيف من عناده وتشبّثه بشروطه.