كتب علي الأمين في “نداء الوطن”:
يبدو أنّ في لبنان ثمّة من هو “أكبر من بلده”، ويتكبّر على البلدان المجاورة الشقيقة والصديقة، ويكابر أمام كلّ المبادرات الدولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بلد على شفا الهلاك بفِعل الإنحدار السريع نحو انهيار كامل.
ويبدو أنّ المبادرة الفرنسية واحدة من ضحايا هذه السلطة المتجذّرة في الإستبداد، والموغلة في الفساد تاريخياً بفِعل الإسناد الخارجي، (ولعلّ من سخرية الأقدار أنّ هذه المبادرة تحتاج الى من ينقذها) وتمكّنت السلطة من “الإجهاض التكتيكي” لهذه المبادرة التي من المفترض أن تحمل مشروع حكومة سوية من شأنها أن تلجم التدهور المميت، وبالتالي ضربت كلّ بنودها وملحقاتها السياسية والإقتصادية، ليعود لبنان النازف الى المربعّ الأول.. ولا من يعين!
الخلاصة، أنّ المبادرة الفرنسية انتهت. هذا ما تشي به كلّ الوقائع السياسية اللبنانية، من عملية تشكيل الحكومة التي دخلت في دوّامة المحاصصة بما يتنافى مع جوهر المبادرة هذه، وانسحاب شركة التدقيق المالي “الفاريز” من مهمّة التدقيق في الحسابات المالية، بسبب عدم الإستجابة لها في عملية الحصول على المعلومات، فيما تراجعت بشكل فاقع المواقف المؤيّدة للمبادرة الفرنسية من قبل أطراف السلطة، بحيث بدت غير ذي شأن، ولا سيّما رئيس الجمهورية الذي لم يصدر موقفاً في خطاب الإستقلال يوحي بأنّ هذه المبادرة لم تزل على الطاولة.
كلّ هذه المؤشّرات وسواها التي أظهرت هامشية الدور الفرنسي في لبنان، دلّلت ايضاً على أنّ الساسة اللبنانيين في السلطة يتطلّعون نحو واشنطن وطهران، لاعتقادهم بأنّ الحل والربط والصفقات تتمّ على هذا المِحور، وهذه الصفقات التي يمكنها وحدها أن توفر طاقة استمراريتهم في السلطة، طالما أنّ المبادرة الفرنسية تولي اهتماماً شديداً لإحداث تغيير نوعي في الحكومة، واهتماماً أكبر للتحقيق الجنائي المالي في مصرف لبنان.
من هنا، فإنّ العقوبات الأميركية التي راهن بعض السياسيين في السلطة على توقّفها أو تجميدها مع بدء المفاوضات بين لبنان واسرائيل، ومع دخول الرئيس الفرنسي على خطّ الإنقاذ بعد انفجار 4 آب في مرفأ بيروت، أظهرت الوقائع أنّ مسلسلها لن يتوقّف، ومرشّح لأن يطال دائرة واسعة من السياسيين ورجال الأعمال، بعدما طال وزراء سابقين من حلفاء “حزب الله”، ويرجّح أن يطال حلفاء آخرين لهذا الحزب من ضفّة الحريرية السياسية وسواها، مِمّن شاركوا في ما يسمّى التسوية الرئاسية.
على أنّ المشهد اللبناني برمّته الذي يؤول الى مزيد من التدهور والإنهيار في المرحلة المقبلة، تحاول بعض القوى الإقليمية، ولا سيّما اسرائيل، استثماره، لمزيد من فرض شروط أمنية وعسكرية، مستفيدة من التراجع الإيراني الذي عبّرت عنه رسائل التهدئة التي أطلقها “الحرس الثوري الإيراني” تجاه القوات الأميركية في العراق، وقبله فتح باب التفاوض بين لبنان واسرائيل، لنزع أيّ فرصة لانقضاض اسرائيلي على أذرع الحرس في المنطقة، بل تفادي قيام واشنطن أو اسرائيل بضربة نوعية لمراكز نووية ايرانية، في ظلّ المعلومات المتداولة عن أشهر قليلة تفصل ايران عن انجاز القنبلة النووية.من هنا تكتسب زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو الى المنطقة، ولا سيّما الى اسرائيل ومنطقة الخليج وفرنسا، أهمّية خاصة، تتركّز على الشأن الإيراني، ويعزّزها ايفاد القاذفة الاستراتيجية B52 الى الشرق الأوسط، في رسالة طمأنة لحلفاء واشنطن، وتهديد ضمني لإيران.
معظم المحلّلين يستبعدون قيام واشنطن بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، بالرغم من ترجيح العديد منهم احتماليتها، الّا أنّ ذلك لا يقلّل من شأن تنفيذ اسرائيل عملاً عسكرياً يتردّد أنّه سيطال أذرع ايران بضربات غير مسبوقة، سواء في لبنان أو سوريا، من دون أن تُستبعد عملية إسرائيلية تطال مفاعل ايران النووي في مناطق ايرانية عدّة.
الأجواء السياسية في لبنان تعكس صورة المنطقة، والحديث عن تطوّر سياسي أو عسكري كبير يشغل الكثير من الخبراء والمواطنين العاديين. ثمّة مخاوف جدّية من أنّ مثل هكذا تطوّر بات لا مفرّ من حصوله، طالما أنّ التسويات والحلول تحتاج الى من يدفع من أجل فرضها، وقد تكون ضربة عسكرية نوعية خاطفة أحد احتمالاتها، خصوصاً أنّ الإنكفاء العربي عن لبنان، وآخر مظاهره ما تردّد عن سحب السفيرين السعودي والإماراتي من لبنان، يدلّل على أنّ التفاعل مع الوضعية الإيرانية في لبنان لا يقوم إلّا على تهميشها، وهذا ما تقوم به الولايات المتّحدة الأميركية، من خلال اشتراطها إخراج “حزب الله” من أي حكومة تطمح أن تساعدها واشنطن والعرب أو الصناديق الدولية.