في مسرح مركز باتريسي للفنون بلندن، يقدم الفنان المصري البريطاني خالد عبد الله، عرضه الفردي الجديد، “لامكان”، من كتابته ومن إخراج عمر العريان. العرض الذي يتناول موضوعات أضحت مطروقة بشكل متزايد في المراكز الميتربوليتانية، كالهوية المختلطة والهجرة والانتماءات المتفرقة وآثار الاستعمار وتضافر التواريخ الشخصية والوطنية، قد يشي عنوانه، ولو من دون قصد بقرابة بعيدة مع “خارج مكان” إدوارد سعيد، وإن كان في الواقع يحيلنا مباشرة وبشكل تهكمي إلي عبارة لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة تريزا ماي: “من يظن نفسه مواطناً عالمياً، هو مواطن لامكان”. وأيضاً يمكننا قراءة العنوان بمنظور “لا أمكنة” الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه، أو بالأحرى باعتبار قاعة المسرح هي ضدها، أو نوع آخر من اللامكان.
فإن كانت اللا-أمكنة بمعناها الأنثروبولوجي مثل المطارات ومولات التسوق لا تقدم فضاء مشتركاً أو فرصة للتفاعل الاجتماعي، فإن قاعة العرض التي يدعونا عبد الله إليها، هي على العكس تماماً، مساحة للألفة والتفاعل والحماية من أهوال الحروب في الخارج والتأمل فيها، أو أقرب ما يكون إلى فلك نوح، وحمامته التي يستدعيها العرض مرات ومرات.
على مدى ثمانين دقيقة، يوظف عبد الله كل حيل البَوح الشخصي والتجاوب والتفاعل الجماعي، ليورط جمهوره ويحوله إلى جوقة مشاركة، يفعل ذلك وهو يلقي الأسئلة على الحضور ويطلب منهم الإجابة بطرائق بأقدامهم على الأرض، وفي مرة أخرى يبرز صورة فوتوغرافية لوالديه في ميدان الطرف الآغر ويطلب منهم تمريرها بينهم، وفي منتصف العرض يدعو الحاضرين إلى رسم بورتريهات لأنفسهم وهم ينظرون في مرايا صغيرة وزعت عليهم، لكن من دون أن ينظروا إلى الرسم نفسه، ليكتشف بعضهم أنهم لم يرسموا منذ سنوات بل منذ طفولتهم. يجمع عبد الله البورتريهات الذاتية المرسومة في حالة نصف العمى تلك لتعلق في معرض ملحق بالعرض. تبدو الرسوم ذات الخطوط الملتوية والملامح المشوهة وكأنها تعكس فحوى السيرة الذاتية، أي تلك المحاولة المراوغة والمدهشة والناقصة دائماً، التي يقدم فيها المرء تصوراً عن نفسه.
كاد عبدالله أن يكون أميركياً بالوراثة، من والده المولود في الولايات المتحدة. وهو يقفز في العرض بين اللكنة الإنكليزية واللكنة الإسكتلندية، والأخيرة هي لكنته الأم حيث أنه من مواليد مدينة غلاسغو. وللتدليل على ذلك يستعرض أمام الحضور صوراً من طفولته مرتدياً التنورة الإسكتلندية. بالنسبة للسلطات المصرية، التي لا يحتوى نظامها الرقمي على خيار يدون إسكتلندا كبلد للميلاد، هو من مكان آخر. بشكل اعتباطي، اختار له الموظف الخيار الأقرب من وجهة نظره، ودون له في شهادة ميلاده، “إيرلندا الحرة”، على إنها مسقط رأسه.
في مقاطع أخرى من “لامكان”، نستمع لبطلنا وهو يتحدث العربية بلهجته المصرية قبل أن يتحول للهتاف بالدارجة تونسية. كيف يمكن للمرء أن يكون هذا كله في الوقت نفسه؟ أو بالأحرى هل يمكن له أن يكون واحداً من كل هذه الانتماءات؟
عبد الله، معروف عربياً بدوريه في فيلمي “آخر أيام المدينة” و”الميدان”، ومعروف عالمياً بأدوار عديدة مميزة، أولها في الفيلم الأميركي الحاصل على الأوسكار، “يونايتد 93″، ولاحقاً بدور دودي الفايد في المسلسل البريطاني الشهير”التاج”. ولديه أيضاً تاريخ عائلي حافل، معلم بمحطات السجن السياسي، بداية من الجد سعد الدين إبراهيم عبد الله، ومشاركته هو نفسه في الثورة المصرية، وفي تأسيس مبادرات سياسية وإعلامية في السنوات اللاحقة على الثورة، من بينها حركة “مُصرّين”.
ورغم أن العرض يلامس هذا كله، إلا أن “لامكان” ليس سيرة ذاتية، بل كما يقول لنا بطله بشكل مباشرهو سيرة ذاتية-مضادة. أي أنها سيرة تتجاوز السرد الخطي، وتستعيض عنه بجمع قطع بازل من سير آخرين وتواريخ سياسية ونوادر شخصية وصور وأصوات معالجة ومقاطع فيديو وظلال وأداءات جسدية، تشكل عند ترتيبها خريطة ذاتية معقدة لمجمل شبكة من العلاقات تمتد من ثورة الماو ماو في كينيا و11 أيلول إلى انتفاضة الخبز المصرية والأميرة ديانا التي نكتشف أنها ذات صلة قرابة باللورد كرومر، وأخيراً يقودنا هذه كله إلى الحرب الجارية في غزة.
ما يمنح بنية العرض تماسكها وتدفقها، ليس السيرة الذاتية ولا البحث التاريخي المرفق بها، بل علاقة البطل بصديقه “عالم” الذي يشخص بسرطان متأخر، سرعان ما ينهي حياته. وذروة العرض المجزأة والمؤجلة والمتناثرة تتجلي في حفلة راقصة يقيمه الصديق المريض في غرفته بالمشفى وهو على أعتاب الموت. هكذا، كما تسعى أي سيرة ذاتية-مضادة، تنتفي الذاتية لصالح صنوف من الغيرية ومن التضامن ومن الإيمان بالجماعي.
رغم الموضوعات الموجعة للقلب التي يتناولها العرض، والموجات المتعاقبة فيه من تقلبات المزاج، إلا أنه مفعم بنوع خاص من الفرح وتتخلله قهقات كثيرة، ويظل بطله الرئيسي الصورة والضوء وحركة الجسد، على خلفية نص متدفق ودقيق وصادق.