في تشرين الأول 2007، استقبل الرئيس المصري حسني مبارك قائد الجيش العماد ميشال سليمان. كان لبنان على أبواب الفراغ الرئاسي على بعد أسابيع من نهاية الولاية الممددة للرئيس إميل لحود، قبل أن يتهيّأ لـ 7 أيار وعقد مؤتمر الدوحة في قطر في عام 2008. حينها أعطى مبارك إشارة الانطلاق للإتيان بقائد الجيش رئيساً للجمهورية، بعدما «نجح في الاختبار». فتوالت لقاءات واتصالات التنسيق المصرية مع دمشق وقطر وباريس، وصولاً الى دعوة وزراء الخارجية العرب الى انتخابه، وبدأت مرحلة الإجماع اللبناني عليه، قبل الوصول الى الدوحة.

في تموز عام 2021، حجب الانشغال بتأليف الحكومة الضوء عن زيارة قائد الجيش العماد جوزف عون لمصر ولقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي، ووزير الدفاع محمد زكى، ومدير المخابرات عباس كامل. بحسب المعلومات الرسمية، فإن الزيارة خُصِّصت للبحث في التعاون بين الجيشين والمساعدات للجيش اللبناني الذي يعاني من أزمات مالية، في إطار ما تقدمه مصر له منذ مدة. لكن الزيارة تحمل دلالات معبرة، في السنة الأخيرة من عهد الرئيس ميشال عون، وتوسيع قائد الجيش الـ«بيكار» السياسي بعد لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومن ثم الرئيس المصري. وهي لا بد أن تضع علامة استفهام على جدول أعمال قائد الجيش الذي يستعد لزيارات خارجية أخرى، ولقاءات تعدّ له بطريقة رسمية.
من الطبيعي أن تساهم الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية في إضفاء «شرعية» على زيارات قائد الجيش الخارجية، وهو الذي يكرر أن «المجتمع الدولي يثق بنا، وأن الجيش هو الرادع للفوضى». وهي تشكل مظلة واسعة يستظلّها في التحضير لجدول أعمال ولقاءات نوعية في أكثر من عاصمة عربية وغربية. ولافتة المساعدات تُبعد الشبهات السياسية عن أي جولة يقوم بها، وخصوصاً بعد مؤتمره الصحافي الأول من نوعه في آذار الفائت والذي توجّه فيه الى السياسيين، وقدّم نفسه مرشحاً رئاسياً غير معلن رسمياً.

العواصم التي تتعامل مع قائد الجيش كمرشح رئاسي توحي وكأنّ لبنان مقبل على مرحلة فراغ رئاسي طويل

إلا أن التجربة في لبنان دلت على أن الأمور ليست بهذه البساطة. وطلب المساعدات، قبل مؤتمر باريس المتعثر، وبعده، ليس وحده على جدول الأعمال. فالدول المعنية، عربية أو غربية، بدأت تتعامل مع قائد الجيش على أنه مرشح رئاسي كما درجت العادة، وهي في طور القيام معه باستطلاع أشبه بالامتحان، على مستوى التعرّف إليه مباشرة، والنقاش معه، ليس في ملف الجيش فحسب، وإنما في وقائع تتعلق بالوضع الداخلي وعلاقات الجيش بالقوى السياسية، علماً بأن باريس حاولت بعد لقاء ماكرون ــــ عون توجيه رسائل وإشارات غير استفزازية لأي مرشح رئاسي آخر أو أي فئة سياسية، بتأكيد أنها تعاملت معه انطلاقاً من موقعه قائداً للجيش، ولا سيما بعدما أثيرت أجواء في لبنان مقرّبة منه تعطي للّقاء بعداً رئاسياً واسعاً. وهو كذلك ما حاولت السفيرة الأميركية دوروثي شيا التأكيد عليه من أنه «شريك جيد لنا من منصبه الحالي كقائد للجيش».
وفي انتظار أن يستكمل عون جولاته، ثمة ملاحظة يجدر التوقف عندها، وهي أن أيّ زيارة على هذا المستوى لقائد الجيش، بحيث يلتقي قادة الدول ورؤساءها، إضافة الى مديري المخابرات والأمنيّين وهم الأكثر فاعلية في ملفات الرئاسة، فهذا يعني أن العواصم التي بدأت تستقبله وتتعامل معه (على الأقل) كواحد من المرشحين، توحي وكأّن لبنان مقبل على مرحلة فراغ رئاسي طويل مع ما يعنيه ذلك من تأثيرات سياسية سلبية سبق أن عاشها اللبنانيون. فقائد الجيش يحتاج الى تعديل دستوري لانتخابه في الظروف الطبيعية. ومن غير المنطقي الاعتقاد بأن الكتل المسيحية الثلاث، القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر والمردة، المرشحة قيادتها للرئاسة، ستقبل بتعديل دستوري للإتيان به. أما الفراغ الرئاسي فهو المسلك الوحيد الذي يمكن من خلاله الإتيان بقائد الجيش رئيساً للجمهورية (مع التذكير بأن سليمان أتى من دون تعديل دستوري بعد مرحلة الفراغ الرئاسي)، وأي تصرف من هذه الدول تجاه قائد الجيش، بما هو أبعد من موقعه الحالي العسكري الصرف، مهما حاولت بعض الشخصيات الترويج له، فهذا يعني أن خطر الفراغ لم يعد مجرد وهم، بل حقيقة. ما يحمّل هذه العواصم وممثليها الدبلوماسيين ــــ الذين يتحرّكون قبل سنة وثلاثة أشهر من الاستحقاق الرئاسي، وفي خضمّ استحقاقات حكومية ونيابية مقبلة غير معروفة النتائج ــــ مسؤولية الترويج غير المباشر للفراغ الرئاسي. وهي بذلك تدعو الجميع إلى الاستعداد لمرحلة تختلط فيها مجموعة تحدّيات سياسية وأمنية، تكون دائماً المعبر لحلول رئاسية بعد فراغ.