كتب زياد شبيب في “النهار”:
ألقى الدستور على عاتق رئيس مجلس النواب واجب الدعوة لانتخاب رئيس الجمهورية، خلال مهلة شهرٍ على الأقل وشهرين على الأكثر من تاريخ انتهاء الولاية. ولتجنب التعطيل، احتاط النص الدستوري قائلاً بأن المجلس ينعقد حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء الولاية. أي أنه في حال عدم توجيه رئيس المجلس الدعوة لانتخاب الرئيس فإن الدستور نفسه دعا مسبقاً وحكماً مجلس النواب إلى الانعقاد وأكثر من ذلك اعتبر الدستور بشكل واضح أن المجلس لا يعتبر مدعوّاً حكماً وحسب بل يُعتبر منعقداً حكماً.
الدعوة إلى انتخاب رئيس الجمهورية دعوةٌ واحدة، وجلسة الانتخاب جلسةٌ واحدة، وليس في الدستور جلسات انتخاب إنما دورات اقتراع متعددة تستمر حتى انتهاء العملية بفوز أحد المرشحين.
نجح رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بتجنّب الوصول إلى مسار اليوم العاشر وحصول الدعوة الحكمية والانعقاد الحكمي بنص الدستور. ولكن عندما يوجّه رئيس المجلس الدعوة تخرج ورقة الدعوة من يده ولا يمكنه أن يُعيد التقاطها ورميها مجدداً. فالدعوة تمّت وأصبح المجلس منعقداً وكان على النواب البقاء في المجلس حتى انتهاء العملية الانتخابية لولا مسألة النصاب التي تُمارس خلافاً للقصد الواضح في نص الدستور والتي أدت إلى اختتام الجلسة وانتظار جلسة أخرى.
حجة المفسّرين القائلين بوجوب توفّر نصاب الثلثين بشكل دائم في جميع دورات الاقتراع ليست منطلقة من نص الدستور بل من تفسيره خلافاً لنصه وللغاية الواضحة منه كما سبق شرحه، وهم يستندون غالباً إلى مفهوم الوفاق أو التوافق الذي ينبغي أن يحظى به الرئيس المنتخب. وهنا مكمن الخلل الذي يتسبب في الاستعصاء الدائم على صعيد تكوين المؤسسات الدستورية.
الخلل البنيوي الذي يعانيه النظام اللبناني لا يكمن في نص الدستور بل هو نابع من عدم تطبيق الدستور حيناً ومن الانحرافات المتتالية والمستمرة في تطبيق أحكامه أحياناً أخرى والتي كثيراً ما تنتج عن مقولات الوفاق الوطني.
الوفاق أو التوافق الوطني الذي يُنادى به سببه أن القوى السياسية ليست سياسية في تكوينها وأهدافها، بل هي جماعات طائفية من لون واحد وإن كانت تحمل مسميات من نوع حزب أو تيار أو حركة أو غير ذلك. والجماعات السياسية التي تسيطر على المشهد العام منذ تأسيس دولة لبنان هي بمعظمها من هذا النوع.
منذ الاستقلال وفي غياب العمل السياسي المتجرد من المنطلقات الطوائفية تمت مقاربة التنافس على السلطة من زاوية المشاركة بين الزعامات آنذاك وإقامة “التوازن الوطني” بين جماعتين طائفيتين أساسيتين أُلحِقت بكل منهما جماعات طائفية أقل عدداً، وبالتالي أصبح النقاش منذ ذلك الحين يتمحور حول تحقيق المساواة بين الطوائف وليس بين المواطنين، وكأن المواطن سوف تصله حقوقه عندما يتوافق من نصّبوا أنفسهم ممثلين عنه وعن غيره، لكن ذلك أدى إلى العكس وتحوّل إلى نظام للزبائنية لا تستفيد منه سوى أقليات من أتباع القيادات وتحوّلت المناصب الدستورية إلى متاريس للحرب الطائفية الباردة وأُبقي المواطنون في حالة تعبئة طائفية دائمة دفاعاً عمّن يشغلون تلك المناصب.
طالما المنافسة هي بين جماعات تمثل طوائف، فإنها محفوفةٌ دائماً بخطر التوتر أو الصراع الطائفي ولذا يصبح التوافق أمراً مطلوباً حفاظاً على السلم الأهلي. ولهذا أصبح التمسك بالتوافق نهجاً وتمّ التنظير له على أنه نوع من أنواع الديمقراطية.
لبنان الذي سيستمرّ بالوجود بقوة تعلّق أبنائه به لا بد أن يُنتج قوى سياسية من نوع آخر لا تتحكم بالمواطنين بعنصر الخوف أو الحماية من الآخرين أو تمنّنهم بالتوافق بين الزعماء بل تسعى لإقامة دولة الحق والرعاية للجميع. وعندها تسقط مقولات التوافق التعطيلية لأن التنافس يصبح مشروعاً ولا يترتب عليه مخاوف طائفية تبرّر تعطيل الدستور أو تشويه معانيه.