حين أطلقت فرقة “بيكنيك” Piknik الروسية، مطلع الشهر الجاري، أغنيتها عن الخوف بعنوان عنوان “لا تخشَ شيئاً”، هل كانت تتصوّر سيناريو تكون فيه ضحية تفجير إرهابيّ؟ وهل ما زالت تحتفظ بمناعتها ضدّ الخوف أمام مشهد دمويّ كهذا؟
خلال مسيرة طويلة تقارب نصف القرن، أحيت فرقة الروك “بيكنيك” مئات الحفلات، كان آخرها يوم 22 آذار/مارس الجاري. وكان 6000 شخص من جمهورهم ينتظرون صعودهم على خشبة مسرح “كروكس سيتي” في موسكو قبل أن يستهدفها هجوم إرهابيّ عنيف، تبنّاه لاحقاً “تنظيم داعش خراسان”. فمن هي هذه الفرقة التي تصدّر اسمها مسرح جريمةٍ سياسية وانسانية، راح ضحيتها حوالى 140 شخص؟
انطلقت فرقة “بيكنيك” في العام 1978، وهي تعدّ من أعمدة الروك الروسي منذ العهد السوفياتي. وخلال مسيرتها المخضرمة، تبدّل أعضاء الفرقة وتغيّر أسلوبها بشكل متواصل، وكانت شاهدة على انهيار امبراطورية وقيام أخرى، كما تعرّضت للحظر حيناً وسلّطت عليها الأضواء أحياناً. وفي خضمّ هذه التحوّلات، وتراجع شعبية موسيقى الروك أمام أنماطٍ أخرى، لم تفقد هذه الفرقة مكانتها لدى الجمهور الذي ظلّ يملأ حفلاتها بالآلاف، إن كان من باب النوستالجيا أو بسبب تطوّرها المستمرّ.وقد بلورت الفرقة، بقيادة المغنّي الرئيسي، ادموند شكليارسكي، أسلوبها الموسيقيّ الخاصّ الذي يجمع بين الآلات السيمفونية والفولكلورية، فضلاً عن أنماط الروك الكلاسيكية والمحليّة، مع لمسةٍ سوداوية متمثّلأة بالـpost punk وgothic rock. وهذا الدمج المبتكر جعلها حالة فريدة في مشهد الروك الروسيّ. أمّا الكلمات فيهيمن عليها الطابع القوطي (gothic) والفانتازي، يختلط فيه السحر بالغموض والمخلوقات العجيبة كمصاصي الدماء وشخصيات الميثولوجيا الشرقية.حظرتها السلطات السوفياتية
هذا الميل إلى الباطنية الروحية وعالم الشرق العجائبي، كان بمثابة تحدٍّ للواقع السوفياتي المفرط في علمانيته. وفي حين مَنَع النظام السوفياتي قراءة روايات الخيال أو ممارسة الشعائر الدينية، أثارت الفرقة غيظ السلطات التي عمدت الى حجب أعمال الفرقة، وإدراجها في اللائحة السوداء للفنانين الممنوعين من نسخ الألبومات أو التسجيل في الاستديوهات. إحدى حجج هذا المنع كانت أغنية “دخان الأفيون” التي تذرّعت السلطات بأنّها تحضّ على تعاطي المخدرات. إلا أن الفرقة استمرّت في تقديم العروض الحيّة وحظيت بشعبية على امتداد الاتحاد السوفياتي، فأحيت جولة من مئتي حفلة خلال الثمانينات واعتلت خشبة المسرح في شتّى البلدان السوفياتية، من استونيا أوكرانيا.
ومع حلول العام 1986، كانت القواعد والقيود الرقابية قد تراخت، فقامت شركة الإنتاج الحكومية التابعة لوزارة الثقافة في الاتحاد السوفياتي بإصدار ألبومين للفرقة. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي بعد سنوات، تخلّصت “بيكنيك” ممّا تبقّى من قيودٍ متعلّقة بالعروض الحيّة، ما سمح لها بإحياء حفلات باذخة أولت فيها الفرقة الكثير من الاهتمام للجانب الاستعراضي والمرئي، فتضمّنت عناصر مسرحية كرنفالية، اضافةً إلى العروض الضوئية وعروض اللايزر.في الآونة الأخيرة، تأثّرت الفرقة بحرب روسيا على أوكرانيا. وفيما عمد كثر من الفنانين الروس، لا سيما فناني الروك، إلى مغادرة بلدهم بسبب تقويض حرية التعبير، اختارت “بيكنيك” البقاء، وهو ما سلّط عليها تهم تأييد الحرب ودعم النظام. ومع أن الفرقة لم تدلِ بتصريحٍ علنيّ حول الحرب، لكنّ إحياءها حفلة خلال العام 2016 في القرم المحتلّ من قبل روسيا، أوضح موقفها من الحرب، وقد مُنعت من الأداء في أوكرانيا منذ ذلك الوقت.
مؤامرة
كذلك، ثمّة شائعات عن ضلوع مغني الفرقة، شكليارسكي، بتقديم الدعم المالي لشراء معدّات عسكرية استُخدمت في الجبهة. ويُقال إن الفرقة أُدرجت في اللائحة غير الرسمية لأعداء أوكرانيا. وبالرغم من تبنّي “داعش” للعمليّة الإرهابية قبل أيام، إلا أنّ ذلك لم يحُل دون تداول الفرضيات ونظريات المؤامرة حول تورّط أوكرانيا في الهجوم، “انتقاماً” من الفرقة. وقد روّجت لهذه السردية، ألينا ليب، صحافية ألمانية مقيمة في روسيا، اذ ذكّرت بتأييد شكليارسكي للغزو الروسي لأوكرانيا، والذي كشف عنه الكاتب الروسي القوميّ سخار بريليبير في أيار الماضي، وتعرّض بدوره الى محاولة اغتيال بعد أيام فقط على ثَنائه على مواقف شكليارسكي، معتبرةً أن ذلك كله “ليس مصادفة”، فيما لا تتوافر حتى الآن أي أدلة تُدين أوكرانيا.
تعليقاً على العقوبات الأوكرانية، قال شكليارسكي في مقابلةٍ العام 2016، “السياسة تأتي وتذهب، ما يبقى هو الحياة”. والأرجح أن ما حدث يوم الجمعة سيغيّر نظرة الفرقة حول انفصال الحياة، والفنّ، عن السياسة.