كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
تشكّل “الكهرباء” في لبنان واحدة من أبرز مفارقات الإنهيار. فعدا عن ماضيها “البشع” المثقل بـ 43 مليار دولار من الديون، فإن حاضرها كلف الأسر في شهر حزيران الفائت ما لا يقل عن 330 مليار ليرة، ومبلغاً قد يكون أكبر لقطاع الأعمال. وعلى الرغم من هذه المبالغ الطائلة التي دفعت، والتي ما زالت تدفع، لا يوجد “أمان كهربائي”. حيث أن الأغلبية الساحقة من العائلات والمؤسسات مهددة بفقدان هذه الخدمة نهائياً، نتيجة انعدام القدرة على تحمّل كلفتها المتزايدة بشكل جنوني.
بلغ متوسط ما أنفقته أسرة واحدة في شهر حزيران على الكهرباء في قرية (X) ما بين 250 و350 ألف ليرة. ويمكن تقسيم المبلغ على الشكل التالي: بين 250 و300 ألف ليرة لفاتورة المولّد، وبين 50 و100 ألف ليرة لفاتورة كهرباء الدولة التي تأتي عن شهرين وتعود لأوائل العام 2020. وبالأرقام فان متوسط الإستهلاك الشهري من الكهرباء لمنزل بتجهيزات عادية أي ( براد، وتلفاز، وغسالة، وسخان مياه لا يشغل إلا نادراً في الصيف، و3 لمبات وجهاز إنترنت، ومروحة) يبلغ نحو 160 كيلو. ومع احتساب سعر الكيلو بـ 1400 ليرة، مضافاً إليه كلفة الإشتراك الشهري لعداد 5 أمبير بقيمة 20 ألف ليرة، فان قيمة الفاتورة تصل إلى 250 ألف ليرة. أما في حال كان إشتراك 5 أمبير “مقطوعاً” وليس عداداً كما في بيروت والكثير من ضواحيها، فان متوسط الفاتورة بلغ 600 ألف ليرة. هذا الإحصاء المبني على عينة عشوائية من قريتين واحدة في جبل لبنان والأخرى في ضواحي بيروت، يُظهر أن ما تدفعة العائلات على الكهرباء يتراوح بين 50 و100 في المئة من الحد الادنى للأجور. وإذا سلمنا جدلاً بأن الأقلية تتقاضى فعلياً الحد الادنى للأجور، وبان 70 في المئة من الأسر تتقاضى أقل من 2.4 مليون ليرة شهرياً، فان كلفة الكهرباء تبقى تمتص بين 30 و50 في المئة من دخلها، وهذا رقم مهول.
العودة إلى الوسائل البدائية
الصدمة ليست هنا، إنما بحتمية ارتفاع هذه الفاتورة تدريجياً في الأشهر المقبلة بالتزامن مع تراجع التغذية من المولدات وكهرباء الدولة على حد سواء. فكلفة الكيلواط/ساعة المحددة بـ1400 ليرة كانت محتسبة على أساس متوسط سعر صفيحة المازوت بـ 35,200 ليرة، وبسعر صرف للدولار على أساس 15 الف ليرة. أما بالنسبة لشهر تموز الحالي فان متوسط سعر صفيحة المازوت لن يقل عن 55,500 ليرة، وسعر الصرف سيكون بحدود 20 ألف ليرة. وعليه فمن المتوقع أن يكون سعر الكيلواط/ساعة للمولدات أكثر من 2000 ليرة بدلاً من 1400 ليرة. الأمر الذي يرفع متوسط إستهلاك الأسر إلى 350 ألف ليرة بدلاً من 250 ألفاً للإشتراك، و800 ألف ليرة للإشتراك المقطوع. وهكذا سيزداد السعر بقفزات كبيرة، خصوصاً مع رفع الدعم كلياً وازدياد ساعات التقنين، حتى نعود في وقت قريب جداً إلى “الوسائل البدائية من الشمعة إلى القنديل و”لوكس” الكاز والبطارية”، يقول أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية والمشرف على “مرصد الأزمة” د.ناصر ياسين.
فـ”المواطنون الذين ما زالوا يصرفون لغاية اللحظة من المدخرات وتسييل بعض الاصول والمقتنيات، سيجدون أنفسهم في الفترة القادمة عاجزين عن تسديد الفاتورة الباهظة للكهرباء. وسيضطرون مرغمين الى وقف الإشتراكات والبحث عن البدائل الأقل كلفة”. هذا الواقع المعيوش الذي يشبّهه ياسين بـ”أواسط الثمانينات”، سيكون أصعب بأشواط مع انتهاء فصل الصيف، نتيجة تفاقم أزمة الكهرباء، واستمرار ارتفاع الأسعار وتدهور كل الخدمات من جهة، وفقدان القدرة الشرائية عند المواطنين من جهة أخرى. والأخطر أن “المواطنين سيعمدون إلى ابتداع آليات التكيف وأدوات العمل المحلية لتدبير أمورهم الحياتية، بعيداً من أي دور لمؤسسات الدولة”، برأي ياسين. “ولا عجب أن تعود لجان تنظيم الدور على عين الماء، وفي المحلات وعلى المحطات ولمّ التبرعات وتوزيع الإعاشات والدواء… وغيرها الكثير من الوسائل التي كانت معتمدة من أواسط الثمانينات وصولاً حتى أواسط التسعينات”.
لا حلول
الوضع المأسوي الذي “ينتظر” النسبة الأكبر من المواطنين على “قارعة” انهيار القطاع كلياً، “لم يعد ينفع معه الترقيع”، يقول الباحث في مجال الطاقة في “معهد عصام فارس” في الجامعة الأميركية مارك أيوب. فـ”اللعبة انتهت ووصلت إلى خواتيمها غير السعيدة. وأصبح حل عقدة ما يولّد عقداً أكبر. فاذا افترضنا على سبيل المثال إمكانية تأمين الفيول للمعامل لفترة محددة من العراق مع تسهيلات بالدفع، فسنعجز عن صيانتها ولن تتأمن الكهرباء”. وعليه فان الحل يجب أن يكون من ضمن سلة الإصلاحات الشاملة التي تبدأ بتشكيل حكومة فاعلة، وتمر بتطبيق القوانين الإصلاحية في القطاع، والإتفاق مع صندوق النقد الدولي وتأمين الإستقرارين المالي والنقدي، وتنتهي بالإستثمارات الجدية وتطوير القطاع.
من دون خريطة الطريق البسيطة هذه، “لا يوجد حل سحري” بحسب أيوب، “إنما وسائل للتكيف والتخفيف من حدة الأزمة”. فأقصى طموح المواطن أصبح العودة إلى التقنين المنتظم لمدة 12 ساعة في اليوم، واختفى مطلب الحصول على الكهرباء 24/24. أما ارتفاع منسوب الوعي على أهمية الإنتقال إلى الطاقة المتجددة، والشمسية منها على وجه التحديد، “فتصطدم اليوم بارتفاع كلفتها وعجز معظم الأفراد عن تركيبها، رغم أنها تشكل مخرجاً مهماً من الأزمة على الصعيدين الفردي والوطني”، من وجهة نظر أيوب، “كذلك الأمر بالنسبة إلى المطالبة بوقف كهرباء الدولة كلياً والإعتماد بنسبة 100 في المئة على المولدات. فعدا عن الكلفة الهائلة نتيجة ارتفاع أسعار المازوت، فان التجربة أثبتت عجز المولدات عن تأمين الكهرباء 24/24 حتى بالنسبة للكبيرة ومنها. ولعلّ تجربة كهرباء زحلة وبيانها الأخير حول ضرورة تخفيف المواطنين من الإستهلاك نتيجة انقطاع كهرباء الدولة بشكل شبه كلي، خير دليل على عدم صحة التوسع بهذا النموذج. إلا أنه بالمقابل تثبت الدراسات انه بالإمكان تحسين النموذج المعتمد في زحلة في حال تم الإعتماد بنسبة 20 في المئة فقط في الإنتاج على الطاقة الشمسية. ذلك أن بقية العناصر من جباية وتنظيم وصيانة وانخفاض الهدر تشكل بنية قوية يمكن تعزيزها والإستفادة منها، في حال كان الخيار المستقبلي هو لمصلحة لامركزية الطاقة”.
تخفيف الهدر وتعزيز الجباية
أمام ما تقدم، يظهر أن لا حلول آنية لأزمة الكهرباء؛ فالنهائية بحاجة إلى دولة حقيقية تقرر مستقبل القطاع، والترقيعية لا تفيد. ولكن رغم سوداوية المشهد “بإمكان مؤسسة كهرباء لبنان اتخاذ خطوات إدارية للتخفيف من حدة الأزمة”، برأي أيوب، “خصوصاً في ما يتعلق بتفعيل الجباية المتأخرة أكثر من عام، والتي تخسر قيمتها كلما ارتفع سعر صرف الدولار”. وبحسب المعطيات فان التسريع في الجباية وتفعيلها كفيل بتأمين بين 750 و1000 مليار ليرة. فيما يؤدي كل تخفيض للهدر بنسبة 1 في المئة إلى تحقيق وفر بقيمة 34 مليون دولار. وهذان الإجراءان لا يتطلبان حكومة أو خطة إنما فقط إجراءات إدارية.
تشير إحصاءات “مرصد الأزمة” إلى انه وفقًا لمحاكاة أسعار المواد الغذائية في حزيران 2021، من المتوقَّع أن تنفق الأسرة نحو 2,130,000 ل.ل. على وجبة رئيسية واحدة خلال شهر واحد، أي ما يعادل 3,16 أضعاف الحد الأدنى للأجور. وإذا أضفنا فاتورة الكهرباء بقيمة 350 ألف ليرة فان العائلة بحاجة إلى 2.5 مليون ليرة لتأمين وجبة غذاء واحدة فقط وكهرباء بالحد الأدنى في شهر حزيران. هذا الرقم سيتضاعف في تموز نتيجة قفز الدولار، وسيبلغ أرقاماً خيالية إذا صدقت توقعات ممثل أصحاب المولدات عبدو سعادة بوصول فاتورة 5 أمبير إلى مليون ليرة.