على مرّ أربعة عقود في عمريهما، وكلاهما تمرّس طويلاً خلالها في القيادتين العسكرية والسياسية، قلّما كان الرئيسان ميشال عون ونبيه برّي على تماس مباشر وصدام حتمي. الثاني سبق الأول إلى المعترك عندما دخله عام 1980 على رأس حركة أمل، ثم تلاه بعد أربع سنوات الثاني مذ ترأّس قيادة الجيش عام 1984. إذّاك أصبحا في الصف الأمامي.

في سني الحرب اللبنانية وجولاتها، كان عون على تماس عسكري مع وليد جنبلاط في معارك الجبل، ومع القوات اللبنانية في المناطق الشرقية، ومن ثم مع القوات السورية على خطوط المواجهة، بينما خطوط التماس العسكري لبرّي كانت مع القوات اللبنانية ما بين المناطق الفاصلة، ومع جنبلاط و«المرابطون» والمخيمات الفلسطينية داخل المنطقة نفسها، ومع الجيش (إبان قيادة العماد ابراهيم طنوس)، وصولاً إلى النزاع مع حزب الله. عندما قاتل المخيمات الفلسطينية حارب اللواء السادس في الجيش إلى جانب أمل، بمعرفة قيادة عون التي مدّت اللواء السادس بالسلاح والعتاد، مع أن برّي كان قد مال عام 1984 إلى خيار جنبلاط تسمية إميل لحود وليس عون لقيادة الجيش، قبل أن يصرّ الرئيس أمين الجميّل على خيار قائد اللواء الثامن.

لم تضعهما الحرب وجهاً لوجه، أحدهما قبالة الآخر، ولذا لم يُعثر يوماً على خطوط تماس عسكري ما بينهما، مع أن عون رفض عام 1989 الاعتراف بشرعية حكومة الرئيس سليم الحص، وبرّي – أحد وزرائها – رفض الاعتراف بشرعية الحكومة العسكرية ورئيسها قائد الجيش. كانا جزءاً من كلٍّ، في صلب صراع محموم محلي وإقليمي، مقدار ما كانا هما والأفرقاء الآخرون على هامشه في آن. شأن عون الذي رفض اتفاق الطائف، لم يكن برّي – كجنبلاط – في عِداد المشاركين في وضعه، إلا أنه قَبِلَ به كتسوية ملزمة، وصار لاحقاً أحد رجالاته الحتميين، قبل أن يُسلّم ندّه بعد 27 عاماً بأن لا يُنتخب رئيساً للجمهورية إلا في ظل الاتفاق الذي أهدر في مقاومته هذا الوقت.
بعد اتفاق الطائف ومن ثم إطاحة حكومته عام 1990، سافر عون إلى منفاه الفرنسي السنة التالية، وأضحى برّي عام 1992 رئيساً لمجلس النواب. مذَّاك باتا – إلى جنبلاط أقدمهما منذ صعوده عام 1977 – في قلب المعادلة السياسية، لا يتزحزح أيّ منهم. يجمع ما بين عون وجنبلاط ما يفرّقهما عن برّي: الأولان يستمدان قوتهما من وجودهما خارج السلطة، ويتغذيان من الحروب والعداوات ويتلذذان بالمواجهات، ويصبحان صعبي المراس والتفاوض، وتلتف من حوليهما طائفتاهما، بينما ثالثهما يفاقم قوته وجوده داخل الحكم، وهو مغزى أن رئيس حركة أمل احتاج إلى جنبلاط كي ينتصر في الضاحية الجنوبية وبيروت عام 1984، وإلى اللواء السادس كي ينتصر في حرب المخيمات عام 1988. ما إن أصبح رئيساً للبرلمان، بمرور سنوات قليلة، أضحى المرجع غير المستغنى عنه في الخلافات الداخلية ومفتي الحلول.
بعد عودة عون من منفاه عام 2005 وصعوده السياسي، وصولاً إلى فاتحة أول افتراق بينهما، لا يُعثر في زمن السلم على تماس سياسي بينهما. قلّل حظوظ الاختلاف انفصال عون عن قوى 14 آذار وتحالفه مع حزب الله. بذلك أقاما في شبه تحالف ما دام حليف الحليف حليفاً. في انتخابات جزين عام 2009 كانت المواجهة الأولى، عندما تمكّن عون من انتزاع مقاعدها الثلاثة للمرة الأولى منذ عام 1992 من برّي، وعدّ الأخير إياها خسارة جسيمة هي الأولى له، هو الذي لم يعتد الهزائم في عقر داره في الجنوب. بعد اتفاق الدوحة عام 2008 كانا معاً في تحالف 8 آذار. من دون موافقة عون كان من المتعذّر انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، آخر تنازل قدّمه حينذاك. ما لا يقتضي نكرانه أن الرجل، من دون حزب الله بالذات، كان من الصعب له في كل حكومة تلت اتفاق الدوحة – وهي المرة الأولى يدخل السلطة الإجرائية – أن يحوز الحصة التي صارت له، ويمتلك منذ ذلك الحين الفيتو القوي كالذي بين يدي برّي وجنبلاط وحزب الله والرئيس سعد الحريري. بات العضو الجديد في النادي الذي أنشأه السوريون في عقد التسعينيات ولا يزال مستمراً من دونهم.

لم يكن عون وبرّي على تماس إبان الحرب، مقدار حربهما في زمن السلم

مذ أُرغِمت سوريا على إخراج جيشها من لبنان عام 2005، انتقل دوراها السياسي والعسكري إلى الثنائي الشيعي. بدا الانطباع الأول أن الدور الموروث هذا انتقل إلى حزب الله وحده بفضل فائض قوته، بيد أن واقع ما حدث وتوالي السنوات مذّاك بيّن أن الثنائي الشيعي تقاسَمَ المحافظة على المعادلة القائمة منذ الحقبة السورية المنقضية: حزب الله مرجعيتها العسكرية والأمنية في موازاة برّي رئيس البرلمان مرجعيتها السياسية. ليس خافياً أن برّي مذَّاك، وعلى نحو أكثر وضوحاً ما بعد 7 أيار 2008 – وكان شريكاً فعلياً فيه على الأرض – ومن ثم اتفاق الدوحة إلى اليوم، يمثّل المرجعية التي يلوذ بها ثلاثي التسعينيات الذي غالباً ما احتاج إلى مظلة دمشق للحفاظ على مصالحه ومكاسبه وحصصه في النظام، كل على طريقته: الحريري، جنبلاط، سليمان فرنجية. يصعب الآن على أي من هؤلاء اتخاذ قرار لا يُستفتى به برّي، أو يُسأل عنه. لا موقع متقدماً لأي منهم – وإن بما يمثلون وما يمثلون – يحوزونه من دون أن يكون وراءه. مع أن كلاً من الحريري وجنبلاط هو الأول في طائفته، يبدو هذا الامتياز غير كافٍ لهما كي يفرضا شروطهما.
كان من الصعب اكتشاف وطأة التناقض ما بين برّي وعون إلى أن اختفى تماماً تحالفا 8 و14 آذار. شأن ما فعل ثلاثي الحريري – جنبلاط – فرنجية عندما لاذ ببرّي، اختار عون المقلب الآخر في الثنائي الشيعي. لذا بات حتمياً انفجار خلاف الرجلين يوم أوشك عون على أن يصبح رئيساً للجمهورية. مع أن البعض الذي رافق الجلسات الـ45 التي لم تنعقد لانتخاب الرئيس ما بين نيسان 2014 وأيلول 2016، ولاحظ أن نواب برّي كانوا يحضرون ما راح يقاطعه نواب حزب الله، وعُزي ذلك إلى تقاسم أدوار داخل الثنائي، إلا أنه أبرَزَ ما سيتبدّى لاحقاً ويسجّل السابقة.
لم يسبق في انتخابات رئاسة الجمهورية أن لا يكتفي رئيس للبرلمان بعدم تأييد انتخاب مرشح هو الذي سيُنتخب، في الغالب يكون عرّابه، بل في عدم التصويت له وكتلته حتى. السابقة هذه قادت إلى أخرى مكملة لها في 31 تشرين الأول 2016 قضت بانتخاب الرئيس من الجولة الرابعة من الاقتراع. حينذاك نُقل عن برّي ما بات يتردد باستمرار كلما تدهورت علاقة الرجلين، أنه يريد انتخاب رئيس لا اثنين.
عندما يتبادل الرئيسان، الثلاثاءَ والأربعاءَ المنصرمين (15 حزيران و16 منه)، ذلك السجال الدستوري حيال صلاحيات رئيس الجمهورية بإزاء تأليف الحكومة، قبل أن ينقضي شهر على جلسة تلاوة رسالة عون (21 أيار) التي كسرت ما بينهما جدار الصمت والتحفظ، فإنهما ينبئان سلفاً بأن الأشهر المتبقية من العهد ستحجب كل الوجوه الأخرى، من أجل أن يربح أحدهما – وهو ما ينطبق على كليهما – المعركة التي تأخّرت خمس سنوات، وكان من المفترض أنها بدأت في اليوم الأول.