شعار ناشطون

عن هوس موندريان بـ”سنو وايت”: عزاء فنّان في زمن الحرب

12/04/25 10:05 am

<span dir="ltr">12/04/25 10:05 am</span>

لم يكن بييت موندريان يخطّط للسفر إلى لندن قط. كانت نيويورك، المدينة العمودية المفعمة بالحداثة، عاصمة الموضة وعزف الجاز الذي عشقه، هي الحلم الحقيقي. في داخله شعور بأنّ لوحاته ستجد هناك موطنها الطبيعي، خصوصاً وأنّ الذائقة الأميركية أبدت انفتاحاً واضحاً على أعماله منذ وقت مبكر.

 

لكن للتاريخ مساراته القسرية. في عام 1937، اعتبر النازيون لوحات موندريان من “الفن المنحط”، وعُرضت في المعرض الشهير في ميونيخ الذي ضمّ أعمالاً لفنانين حديثين وُضِعوا على اللائحة السوداء. ومع تصاعد التوتر في أوروبا واقتراب الحرب من باريس، حيث كان موندريان يقيم بشكل متقطع منذ عام 1912، بدأ يبعث برسائل إلى أصدقائه عبر الأطلسي بحثاً عن مخرج. وجاءه الردّ أولاً من لندن.وصل إليها على مضض، لكنه ما لبث أن وجد في حي هامبستد الأخضر الفسيح ما يريحه. الهواء النقي أنعش رئتَيه المرهقتين، وسرّه اتساع الشوارع وخلوها من الاكتظاظ. وعلى الرغم من نفوره من سلالم المترو الكهربائية الطويلة، إلا أنه استأنس برموز المدينة الكبرى، مثل كاتدرائية القديس بولس وبرج لندن، وأُعجب برباطة جأش سكانها وهم يتهيّأون لحرب وشيكة. حتى أنه بدأ يصف باريس بـ”مدينة الألعاب” مقارنة بها.

 

كان موندريان في السادسة والستين من عمره عندما غادر العاصمة الفرنسية، إلا أنّ الانتقال جرى بسلاسة بفضل شبكة من الفنانين المتضامنين. فقد رافقته الرسامة وينيفريد نيكولسون في رحلته من باريس، واستقبله النحات الروسي ناوم غابو وسجّله في فندق، فيما ساعده بن نيكولسون على استئجار شقة صغيرة. وسرعان ما انضوى في مجتمع فني متماسك وصفه أحد النقاد بـ”العشّ الهادئ للفنانين”، وكان يضمّ هنري مور، بول ناش، وزوجة نيكولسون الثانية، والنحاتة باربرا هيبزوورث. لم تكن هذه الجماعة له مصدر دفء إنساني فحسب، بل كذلك منبع إلهام إبداعي، وفق ما أورد موقع “آرت نت”.

 

وكما اعتاد في باريس، أعاد تشكيل شقته الجديدة لتكون امتداداً لروحه الفنية. طلى الجدران باللون الأبيض، وعلّق على الحائط مستطيلات كرتونية ملوّنة تتناغم مع ألوان قطع الأثاث. فصل ستارٌ بين مساحة النوم والمرسم، لتغدو الشقة لوحة ثلاثية الأبعاد حيّة من توقيع موندريان.شرع في العمل فوراً، فأنجز لوحات مثل تركيب بالأصفر والأزرق والأحمر (1937–1942)، وبدأ يندمج تدريجياً في المشهد الفني اللندني. لكنّه ظلّ يشعر بالغربة. لم يكن ناسكاً بالمعنى التقليدي، لكنّه تحلّى بقدر كبير من التحفّظ، ما جعل علاقاته الشخصية محدودة. قال عنه غابو ذات مرة إنّه “رجل يصعب أن تقام معه علاقة حميمة”. كما أنّ فارق العمر بينه وبين معظم أفراد حلقة هامبستد، الذين كانوا أصغر سناً بجيلٍ كامل، عمّق العزلة.

 

ومع ذلك، عبّر موندريان عن امتنانه بطريقته الخاصة، لا مباشرة، بل عبر رسائل شديدة الخصوصية لأخيه كاريل في هولندا. كان يستخدم صوراً طريفة واستعارات حنونة. ففي مطلع عام 1938، شاهد مع أخيه فيلم ديزني “سنو وايت والأقزام السبعة” (Snow White and the Seven Dwarfs) في باريس، وتعلّق به بشدّة. جمع بطاقاته البريدية، واشترى أسطوانته الموسيقية، ورسم مشاهد منه حين نفدت المطبوعات. وجد في الحكاية انعكاساً لوضعه: روح نقية تهيم في غابة غريبة، وتجد في مخلوقات الغابة خير معين.فألبس أصدقاءه البريطانيين أدوار تلك الكائنات. أصبحت نيكولسون وهيبزوورث طيوراً تحمله إلى برّ الأمان. وجاء آل غابو إليه بـ”لحاف أزرق جديد”. أما مالك العقار، فكان سنجاباً طلى جدران الشقة بذيله. جيرانه؟ الأقزام السعداء، يصدح راديوهم بأغنية “هاي-هو، هاي-هو”. ووقّع موندريان رسائله بـ”النعسان”، في حين كان شقيقه “العطّاس”، تقمّصاً لشخصيات الفيلم.

 

في رسالة مؤرخة في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1938، كتب: “كان من اللطيف أن تمرّ لزيارتي. شكراً أيضاً على رسائلك اللطيفة. أنا سعيد هنا حالياً. لقد نظّفَتْ سنو وايت الشقة، والسنجاب طلى الجدران بذيله. سأكتب لك قريباً. في الوقت الحالي، يبدو أن الشّريرة (الحرب) قد ابتعدت، هاها”.

 

لكن فترة الهدوء لم تطل. ففي منتصف عام 1940، عاد شبح الحرب بقوة. كان معظم الأصدقاء قد غادروا لندن تحسّباً للغارات الجوية. وبعد شهرين من القصف، لم يعد أمام موندريان خيار سوى الرحيل من جديد. وهذه المرة، أخيراً، إلى نيويورك.

تابعنا عبر