عماد مرمل – الجمهورية
إزدحم خطاب «التدقيق الجنائي» للرئيس ميشال عون بالرسائل التي كانت في معظمها مباشرة وموجهة الى عناوين واضحة، فهل وصلت؟ وأي مفاعيل ستترتب عليها؟
واللافت انّ طبيعة الجنرال طغت على شخصية الرئيس في الخطاب، من حيث الشكل والمضمون، فاستعاد عون إيقاع الرابية وأيقظَ «خلاياها النائمة»، كأنه في حنين الى ايام رئاسته تكتل التغيير والإصلاح، حين كان يصول ويجول بأريحية، بعيداً من الحسابات التي يفرضها موقع رئاسة الجمهورية على شاغله.
واذا كان عون قد وجد نفسه في الآونة الأخيرة مضطرا الى التموضع في خنادق دفاعية على جبهات سياسية عدة، الا انه استعاد زمام المبادرة في معركة التدقيق الجنائي وانتقل الى الهجوم المضاد مصوّباً على ما يفترض انها «الخاصرة الرخوة» لخصومه، وهو يهتف: عليّ وعلى أعدائي يا رب.
وقد نجح عون عبر كلمته الاخيرة في إعادة شد عصب مؤيديه واستنهاضهم، سواء حيال شخصه او حيال قضية التدقيق الجنائي بعدما افترض البعض انه أصبح بلا غطاء شعبي، وان هناك لوناً واحداً للارض يعكسه الحراك المعارض.
ولكن هل يمكن «تسييل» الخطاب وترجمته عملياً، ام انه سيبقى وجدانيا فقط، يحاكي الجرح ولا يداويه؟
يعتبر «الواقعيون» ان عون يخوض من خلال اصراره على التدقيق معركة للتاريخ وليس للحاضر، بمعنى انه يبرّئ ذمته ويقول كلمته على قاعدة «اللهم أشهد اني بلغت»، لكن كسب هذه المواجهة هو صعب جدا وليس مضمونا، لأنّ تعقيدات التركيبة اللبنانية لا تسمح بالذهاب بعيدا في المحاسبة وهناك حدود لا يمكن تجاوزها بفعل التوازنات الطائفية والسياسية، فكيف اذا كان البعض يرتاب اصلاً في نيات عون والتيار الوطني الحر ودوافع حماستهما للتدقيق الجنائي، وسط شعور قوى سياسية بأنّ المراد منه تصفية الحسابات وليس معرفة الحقائق المالية.
ويقر أصحاب هذا الرأي بأن خطاب عون كان مؤثراً، الا انهم يلفتون الى ان صرفه على أرض الواقع هو أمر آخر. وبالتالي، فإنّ المقاربة العملية في رأيهم هي تلك التي تنطلق من وجوب رسم «زيح» فاصل بين ما مضى وما سيأتي، فيكون هناك عفو عن ارتكابات الماضي شرط عدم تكرارها كما حصل عفو عن الذين خاضوا الحرب.
ويتساءل هؤلاء: أي قضاء سيستطيع محاكمة الاسماء الكبيرة المحمية بكل انواع الحصانات اذا أثبت التحقيق الجنائي ان بعضها متورط بالفساد او الهدر المالي؟
الّا ان شخصية وثيقة الصلة بعون تؤكد انه مصمم على المضي حتى النهاية في مغامرة التحقيق الجنائي، ملاحظة انه لم يحصره في البنك المركزي «بَل دعا عبر كلمته الى اعتماده في كل الادارات والمجالس والهيئات والوزارات، اي انه يشمل «الطاقة» التي تولاها النائب جبران باسيل وعدد من رموز التيار لمراحل طويلة، الأمر الذي يضفي صدقية على طرح رئيس الجمهورية وينفي عنه شبهة التسييس».
وتشير تلك الشخصية الى انه كان يؤخذ على عون انه لا يسمّي المرتكبين، فإذا به يسمي الأشياء بأسمائها ويوزّع المسؤوليات بشكل عادل على الطبقة السياسية والبنك المركزي والمصارف والمجتمع الدولي، «وكذلك كان يؤخذ عليه أنه يكتفي بالشكوى مثل المعارضين، فإذا به يطلق مواقف حازمة وحاسمة لا مداراة فيها ولا مسايرة».
وتعتبر الشخصية ايّاها ان عون نقل المعركة السياسية على الحكومة المقبلة من مستوى الخلاف الضيق حول حصص وأسماء الى مستوى النقاش الجوهري حول خيار الإصلاح الذي يمثل التدقيق الجنائي احد ركائزه، مشددة على انّ خطاب عون الموجه الى الخارج والداخل، يعكس تمسّكه بتشكيل حكومة اصلاحية، بدءا من رئيسها- سواء كان سعد الحريري او غيره- وصولاً الى جميع وزرائها، «وهو لن يتراجع عن هذا المعيار مهما اشتد الضغط السياسي والتلويح بعقوبات أوروبية، ومَن رفض ان يُنتزع منه توقيعه تحت ضربات غارات السوخوي على قصر بعبدا عام 1990 لن يوقّع على ما يخالف قناعاته تحت التهديد بعقوبات».
وبناء عليه، صار واضحاً ان بعبدا تشترط لاستكمال التعاون مع الرئيس المكلف ان يسهل إجراء التدقيق الجنائي وان يوافق على الذهاب به حتى آخر المطاف من دون رسم اي خط أحمر، «وبالتالي الكف عن المناورة وإطلاق القنابل الدخانية للتمويه على حقيقة موقفه»، وفق الانطباع السائد في القصر الجمهوري.
كذلك، فإنّ عون، ومن خلال الربط العضوي بين التدقيق والمبادرة الفرنسية والتنبيه الى انّ اسقاط الأول يعني ضرب الثانية، انما قَصَد إفهام باريس بأن الحريري وحلفاءه هم الذين يعطلون جوهر مبادرتها وليس جبران باسيل كما يروّج خصومه.
ومن بين الرسائل الحادة التي وجهها عون، واحدة وصلت إلى مصرف لبنان واتهتمه صراحة بمخالفة قانون النقد والتسليف وعدم تنفيذ التدابير اللازمة لحماية أموال الناس، ثم أرفقها بدعوة حكومة تصريف الأعمال الى الاجتماع فوراً لاتخاذ الاجراء المناسب من أجل حماية الودائع وكشف اسباب الانهيار.
وتبعاً للمطلعين، فإنّ حَض عون الحكومة المستقيلة على الانعقاد استثنائياً انما يستبطن دفعها نحو اصدار قرار بإقالة رياض سلامة بعدما طفح كيل رئيس الجمهورية من سلوكه، وهو يعتبر انّ بمقدور الحكومة من الناحية الدستورية إزاحة الحاكم عن منصبه حتى لو كانت في موضع تصريف الأعمال، «لأنه اذا كان بإمكانها ان تجتمع لإقرار مشروع الموازنة وفق رأي رئيسها، فهي تستطيع حكما أن تلتئم لاتخاذ قرار بإقالة سلامة» تبعاً لاجتهادات البعض.