منير الربيع – المدن
تتصاغر السياسة على قدر صغار أهلها في لبنان هذه الأيام. فهي لم تعد قائمة على مبدأ التدبير والتطوير، بل على الصغار والتصغير: تصغير البلاد إلى المناطقية أو الفئوية أو الطائفية أو الشخصانية المتضخمة والمريضة.
وهذا ما يتحكم حتى بالاهتمامات الشعبية في هذه المرحلة، بحثاً عن توفير أدنى مقومات الحياة: المحروقات والمواد الغذائية. وهكذا تضيّق الأزمات الخانقة الأفق السياسي، وتبرز الشعبوية الفئوية التي يغذيها تلاسن المسؤولين وتهريجهم الممجوجين، دفاعاً عن حقوق أبناء مناطقهم وطوائفهم.
صغائر محلية
وتروح تصدر تعاميم عن مجالس بلدية تحظى بتغطيات سياسية، وتستوجب حصر المحروقات في هذه البقعة الجغرافية أو تلك، لتأمينها لأبناء هذه المنطقة أو تلك حصراً، وكحق مكتسب أو مُنْزل.
ومثل هذه الخطوات تنذر بتفكيك البلد وشرذمته على الغارب. وقد لا يتطلب ذلك وقتاً طويلاً، إذا استمرت الأزمات ومعالجاتها على هذه الحال من الصغار والتصاغر في ما يلهج به أهل السياسة ويفعلونه. وفي نظر البعض وقد يكون هذا نوعاً من الالتفاف الممكن على المشكلات وإيجاد مخارج لأزمات مستعصية وتفوق الحصر.
وغالباً ما يبدأ مثل هذه الخطوات في مناطق الأطراف، فيما تكمن المشكلات الأساسية في المدن الكبرى. وتنجم عن ذلك فوضى اجتماعية هائلة، غالباً ما تنطوي في لبنان على عوامل طائفية ومذهبية. وهذا ما أبرزته مشاهد تحلل الدولة وانهيارها اليوم.
انقلاب على الدستور
وما ينطبق على معاناة الناس المباشرة في معيشتهم، وعلى التفافهم عليها في معالجات محلية ومناطقية ضيقة ومتصاغرة، ينطبق على المقاربات السياسية الأوسع. وهذه أبرزها “معركة” تشكيل الحكومة التي يخوضها رئيس الجمهورية ميشال عون، مكرراً بلا كلل ولا ملل أنه “يعمل مع الرئيس المكلف على التعاون والتشارك والتفاهم في سبيل ولادة الحكومة”.
وفيما يكرر عون هذه اللازمة، يكون يفكر في تكريس معادلة سياسية منافية للدستور، ليستعيد صلاحيات يعتبرها مفقودة منذ مغادرته القصر الجمهوري سنة 1989. وما يريد عون استعادته أو تكريسه عرفاً، هو أن يشكل رئيس الجمهورية الحكومة، مع دور ثانوي لرئيسها المكلف. وهذا عكس القاعدة الدستورية الثابتة للطائف: الرئيس المكلف هو من يشكل الحكومة، وتصدر مراسيمها بالتفاهم مع رئيس الجمهورية.
وبالمعنى الضيق للكلمة، تحصر رغبة عون هذه إنتاج التشكيلة الحكومية بموافقة رئيس الجمهورية، بدلاً من المجلس النيابي. أما بالمعنى الأوسع، فإن هذه المشكلة المفتوحة والمستمرة، يختصرها البطريرك الماروني بشارة الراعي بقوله: “لا يريد المسؤولون السياسيون تشكيل حكومة منذ أكثر من سنة على الأزمة الحكومية”. ويضع الراعي هذه المعادلة في سياق محاولات قوى متعددة الانقلاب على الدستور.
حزب القوة والظفر
ويندرج هذا في سياق متغيرات جيوستراتيجية تشهدها منطقة الشرق الأوسط، على وقع التصعيد الأميركي – الإيراني لإعادة إحياء مفاوضات الاتفاق النووي. والتصعيد القائم اليوم هدفه الوصول إلى الاتفاق، الذي يستتبع توزيع مناطق النفوذ في المنطقة. وهذا ما يتضح بشدة في لبنان الساحة المتنازع عليها بين محورين.
والساحة اللبنانية يتنازعها نفوذ محاور متعددة، في طليعتها كل من النفوذ الغربي والإيراني. وهذا ما يغرق لبنان في مسارات تدميرية، معطوفة على مغامرات سياسية محلية، في انتظار الجلاء المرتقب للأوضاع.
ففيما تعمل إيران على توسيع نفوذها وتثبيته في لبنان، يبدو واضحاً الاستثمار الأميركي والإسرائيلي في الانهيار اللبناني، وسط غياب أي تصور واضح لما ينجم عن اكتماله، وما قد يرسو عليه على صعيد البنية السياسية للبلاد في المرحلة المقبلة، بعد مخاض طويل.
وباخرة حزب الله الإيرانية، تشير إلى أن”الحزب” مستعد للذهاب في خياراته إلى النهاية. وكأنه يقول إن التهديد بفرض عقوبات لا ينفع ولا يعنيه، على قاعدة أنه قد يستفيد من الأزمة لاحقا، رغم آثارها السلبية الحالية. وخيار حزب الله هذا قد يلجأ إليه في الجنوب أيضاً. فهو يؤكد أنه جاهز لفتح الجبهة عندما يحصل أي تطور عسكري في المنطقة.
ويتقاطع هذا مع إصرار حزب الله على إظهار أنه الأقوى. فهو لا يفوّت مناسبة إلا ويؤكد فيها أنه القوي، بل الأقوى في مواجهة العقوبات التي تضعف القوى الأخرى سواه. أما هو فقادر على مضاعفة قوته، وعلى الظفر بالمكانة السياسية التي يريدها، بفعل التوازنات التي يفرضها مسار التطورات الخارجية.