شعار ناشطون

عبد الرحيم غالب فنان طرابلسي أبدع و جمع بين الحروفية وقلم الرصاص في أعماله التراثية

17/01/23 05:53 pm

<span dir="ltr">17/01/23 05:53 pm</span>

كتبت ليلى دندشي

في العودة إلى الجذور الأولى للكتابة يمكن إعتبار إختراعها في العراق القديم في الألف الثالث قبل الميلاد، من أكبر السمات التي تسنى للإنسان فيها تطوير ذلك الإبتكار مع مرور الزمن من شكل رموز بدائية إلى حروف “ألفبائية” سمت بها عقول الكنعانيين نحو عام 1700 ق.م. والتي وهبت البشرية أسمى الإختراعات قاطبة تمخّضت عنه مختلف الكتابات في ثقافات العالم حتى اليوم ومنها اليونانية واللاتينية والسريانية التي كان قد وهبها لهم الفنيقيون.

والكتابة لعربية أخذت جذور نبطية شامية مستمدة من الآرامية الشرقية، وكانت من إحدى تلك الإشتقاقات الكتابة الشقيقة التي وصلت الحجاز مع بواكير المسيحية من خلال نشر البشارة أو تجارة الشتاء والصيف التي إمتهنها هل الحجاز والتي ورد ذكره في القرآن الكريم، وهذه الكتابة إستعملت أول الأمر في تدوين المعلقات، ثم تلتها مرحلة تعايشت فيها مع لخط الحِمْيري اليمني في رحلاته الأخيرة حيث إرتحل معها فكان أن تمخض الحيري والإنباري ولحجزي حتى وصل إلى يد بشر بن عبد لملك الكندي الذي يعود له الفضل والشرف في تعليم الخلفاء الراشدين عمر وعلي وعثمان والرعيل الأول من الصحابة.

ومن دواعي الإجلال نذكر هنا تلك الدعوة إلى الكتابة التي جاءت إستثناء على لسان نبي أميّ هو الرسول الكريم (صلعم). وقد إبتدأ الخط العربي من خلال علاقة سيمولوجية دلائلية أو رمزية متمثلة بالبيان الإلهي في القرآن عن طريق توضيحه بالكتابة.

وقد كان الخط الكوفي صاحب الحظوة الأوحد في كتابات في المرحلة التالية في شتى الأعراض وتوسّع مع إتساع رقعة الإسلام الجغرافية وبذلك إتسعت صنوف الإبداع به ليصل إلى 12 نوعا نذكر منها الإسماعيلي والمكي والمدني والأندلسي والشامي والعراقي… وبالتوازي مع ذلك فقد نبذت الفنون الإسلامية عامة الطابع التصويري وإتخذت لنفسها الإتجاه الزخرفي ذا المنحى التجريدي الذي يكرّس حالة روحية كانت قد وردت مفاضلتها بقوة في الخطاب الثقافي العام للإسلام وقد إنبرى للتنظير لها رهط من العلماء الذين أغنوا الفكر بالنتاج الفلسفي الفياض ولاسيما ما يخص كنه الجمال وتفسيره على يد الفلاسفة المسلمين مثل الكندي والفارابي وإبن مسكويه وإبن سينا وإخوان الصفا…

وقد تطور الخط الكوفي في المشرق الإسلامي منذ نهاية القرن العاشر الميلادي وتكرّست حالة قدسية الخط وحظوتها في العمارة عندما أصبح عنصرا جوهريا في المعالجات الفنية الرمزية والجمالية للعمارة الدينية بمعالمها الروحية والثقافية وقد شهد الخط العربي حالة من الإعجاب والإنبهار لدى الأوروبيين في القرون الوسطى وتداخل ذلك في عمارتهم المنشأة في تلك الحقب.

ويعتبر الفنان عبد الرحيم غالب إبن طرابلس خير من يمثل هذا الإبداع من خلال لوحاته سواء على القماش أو الورق المقوّى أو على النحاس وهو أحد مؤسسي مجموعة الفنانين العشرة التي أطلقها المجلس الثقافي للبنان الشمالي في العام 1973.

وجديد الفنان غالب في أول معرض خاص له هو ما عرضه من لوحات أنذاك إستخدم فيها قلم الرصاص في معرضه الأول ، ومنها لوحات نحاسية (حفر نافر) وأخرى إستخدم فيها الغواش والحبر الصيني ولوحتان حروفيتان.

وبالرغم من التنوع الفني الذي كان بالإمكان ملاحظته بسهولة خلال التجوال في أرجاء المعرض، غير ان نسيجا دقيقا يجمع بينها ويتمثل في تلك المعالجة لبعض إشكاليات الإنسان العربي المعاصر التي تعبّر عنها حالة الضياع عنده، لعدم إدراكه لهذا الرابط بين ماضيه وحاضره ومستقبله، فإذا بريشة الفنان عبد الرحيم غالب تعيد نسج هذه الخيوط الدقيقة.

ولربما “رقصة المولوية” التي تضمنتها أكثر من لوحة، ليست بحد ذاتها نزعة نحو الصوفية فحسب، بل هي أيضا تعبير تجريدي عن الطوق إلى السمو والإرتفاع بقدرات الإنسان العربي وإعادة الصفاء إلى البشرية التي تتنازعها شتى آفات العصر.

أما الناحية الجديدة والمدهشة إلى حد الجرأة فهي إستخدام عبد الرحيم غالب لقلم الرصاص في الرسم الذي يصفه هو نفسه بأنه “نوع من التحدي فإستخدام قلم الرصاص مسألة صعبة، خاصة لجهة التعبير بلون واحد وهو الذي يعتبره الناس لونا جامدا، ولكنني نجحت…”.

وفي حرصه على إيلاء مضامين أعماله الأهمية التي ينشد، ينأى فناننا غالب عن إستخدام الألوان في أعمال عدة ليستوقفنا أمام الاسود والأبيض وحدهما أو أمام لون واحد كما في نحاسياته ولوحاته الحروفية المدهشة، فإذا المضمون هو البارز والفكرة التي تحتل المرتبة الأهم.

أجل: هو الإبداع جسّده فنان طرابلسي كبير إكتسب خبرة واسعة ثقلتها التجربة وأغناها الوعي وزادها نضوجا دراسة معمقة وموسعة لجمالية الخط العربي وإنفتاح على النتاج الحضاري الإنساني فإذ نحن في رحاب عطاء رائع شكلا وعمقا وإمتدادا إستمر بالعطاء حتى الدقائق الأخيرة من عمره الذي أمضاه في محراب للفن حيث المزيج المتوازن الذي لا تطغى فيه حداثة على أصالة بل نجد أنفسنا أمامه في راحة فكرية ونفسية لأنه إنبثاق من شرقنا مفاهيمنا ورؤانا.

تابعنا عبر