
كتبت ليلى دندشي
حان الوقت أن يعود كل منا إلى إسترجاع الماضي القريب ويتأمل في النواحي الحياتية التي عاشها ويُجري مقارنة بسيطة وسريعة بين عالم طفولته وبين طبيعة الظروف التي يعيش في كنفها أطفاله، وليتساءل عن المتغيرات وأسبابها؟ وهل كانت الحداثة لصالح الأطفال؟ أم أنها دفعت بهم إلى مزيد من التعقيد والإهمال وتجاهل المتطلبات الحقيقية لنشأتهم وتزويدهم في الوقت نفسه بمساحة من الحرية والوعي والإدراك وإكتساب المعارف بطرق ثقافية تمكّن أجيال المستقبل من التدرّج وفق تفاعل حقيقي مع الظروف الحياتية ومجابهة متطلبات الحاضر بمشاركة واقعية تمكنها من الإنطلاق في سلّم الحياة بتفاعل سليم مع الواقع ومع المتغيرات المستقبلية.
ولا بد من التساؤل هنا: هل يكفي أن نؤمّن لأطفالنا بعض اللوازم الحضارية بتقنياتها المتعددة وأن ندفعهم ليكبروا ويتخطّوا مراحلهم الحياتية فقط من خلال إمتلاكهم لبعض أنواع هذه الحضارة؟ أم أنّ الأمر يتطلّب منّا أن نؤمّن لأطفالنا حياة متدرجة تأخذ بعين الإعتبار سلوكيات ومدارك تنمّي قدراتهم ومتطلباتهم العمرية وتركيزها في عقولهم وأفكارهم وتدرجهم في الحياة.
وهل تساءل كل منّا عمّا قدّمه ويقدمه لأطفالنا، وماذا أعددنا لهم قبل وأثناء وبعد مجيئهم إلى “دنيانا”؟ وهل قارنا بين متطلباتهم وما هو متوفر منها في الوقت الراهن؟ وهل تساءلنا اصلا عن ماهيّة هذه الأمور الواجب أن يتم تأمينها لأطفالنا؟
وهل قارنّا أصلاً بين ألعابنا التي إندثرت شيئا فشيئا ولم تعد متوفرة في مجتمعنا الإستهلاكي، فتحولت ألعاب الأطفال من حالة المشاركة بين ابناء الجيل الواحد، إناثا أو ذكورا، أو بين الفئتين سوية، إلى ألعاب فردية سيطرت عليها اجهزة التكنولوجيا وفقدت طابعها الإنساني والتعليمي في ما يتعلق بموضوع المشاركة وسوى ذلك من المفاهيم التي من شانها تنمية القدرات الذهنية لدى الأطفال منذ الصغر، وإستعيض عنها بالإنطواء والإنزواء لساعات وساعات والإنعزال في ركن خاص في المنزل، وبالطبع فإنّ معظم هذه الألعاب ليست موجهة اصلا لصغار السن أو لأعمار معينة وبالتالي فإنّ اضرارها أكثر من فوائدها.
وفي هذا الإطار فقد الأطفال أيضا ركنا أساسيا له دوره الأساس في عملية التنشئة ويتمثّل بالفنون بمختلف أنواعها لاسيما ما يتعلق بأغاني الأطفال التي أصبحت نادرة جدا، ولأن الطفل بحاجة للموسيقى ولتنمية حاسة السمع، ومن دون ان يشعر، نرى أطفالنا يسارعون إلى حفظ وترداد أغاني الكبار بالرغم من أنهم لا يدركون معاني جملها الفنية بغياب تلك التي تم التعارف بتسميتها بأنها أغاني خاصة بالأطفال وتذاع عبر برامج مشتركة فيها عدّة مسائل تتناول الأمور “الخيالية” وتقوم على الإيقاع الخفيف وسريع الحفظ الذي يستهوي الأطفال وبالتالي أصبحت هذه التقنيات التي تتلاءم مع عقولهم في طور الإنقراض.
ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى أنّ المسرح الغنائي والإستعراضي للأطفال قد زال هو الآخر، وأصبح صغار السن عوضا عن ذلك يلجاؤون إلى حضور البرامج التلفزيونية الخاصة بالكبار بالرغم من عدم مُلاءمتها لأذهان الصغار الذين سرعان ما يتعايشون مع هذه البرامج ويسبقون ذويهم إلى متابعتها من خلال أجهزة التلفزيون، وتراهم في أوقات مختلفة يرددون مقاطع وكلمات تم ذكرها في هذه البرامج، وأحيانا كثيرة يتأثرون بما ورد وما اُذيع وغالبا ما تُصبح هذه الألفاظ ملازمة لهم ويكررون إطلاقها في جلسات الكبار بالرغم من محاذير ذلك.
ومن العِلَل الكبرى التي بات الأهل يعانون منها على صعيد التفتيش عن توفير ما يلائم أبناءهم سواء بالنسبة لأناشيدهم وأغانيهم وكذلك إنعدام صناعة الأفلام الخاصة بهم، وأيضا بما يتعلّق بمسرح الأطفال وغيابه هو الآخر حتى عن شاشات التلفزة، وإمتناع دور النشر عن إصدارات الكتب والمنشورات الخاصة بعالم الأطفال لأسباب مادية وتقديم الأرخص سعرا حتى ولو كان ينمّي في الأطفال قيما سلبية، أو يدفعهم إلى العنف السلوكي، وتبنّي أفكار إنتقامية.
ووسط كل ذلك نلحظ في خضم زمن “العولمة” تصدير الشخصيات الكرتونية التي تتلاءم مع تأمين المبيعات أولا وأخيرا بغضّ النظر عن تأثير ذلك على تنشئة وسلوكيات صغار السن وجيل الشباب، بحيث أن بعض الأقنية التلفزيونية بدأت بإستخدام “الترفيه” هدفا أساسيا للتواصل مع الأطفال وإعداد برامج من فقرات سريعة الإيقاع ولكنها بعيدة كل البعد عن المكونات التي من شأنها تنمية مواهب الصغار لا الدفع بهم نحو الإنحرافات والمنزلقات المختلفة.
وهذه المعالم وأجوائها البعيدة كل البعد عن هموم الطفل وتنميتة تزداد خطورتها مع الزمن بغياب أي تحرك على الصعيد الرسمي من قِبل المسؤولين والمتحكمين بقضايا النشر والإخراج حيث تغيب برامج الأطفال سواء في المسرح والسينما والتلفزيون وكذلك بالنسبة للمجلات والكتب حيث تنعدم أحيانا البرامج الخاصة بعالم الصغار وكل ما له علاقة بتنميتهم ونشأتهم.
ولا يسعنا هنا إلا الإشارة إلى أنّ فن الاشرطة المصوّرة الخاصة بالأطفال لا يزال مجهولا في عالمنا العربي في حين أنّ الصفحات تُفرَد له في الصحافة الغربية، مما يدل على الأهمية التي وصل إليها هذا النوع من الفن والشعبية التي يحظى عليها في الغرب، فالاشرطة المصوَرة الخاصة بعالم الأطفال تحتلّ عالميا المرتبة التاسعة في سُلّم الفنون الجميلة، ولا يستطيع العمل في هذا المجال إلآ من كان يملك خيالا واسعا، ووقفة سريعة في مشاهدة طفل وهو يتابع مجلة غربية عن “بطوط وميكي” وباقي شخصيات “ديزني” تؤكد لنا ، وبصورة قاطعة اهمية هذه “الموضوعات” بالنسبة للطفل سواء كانت مجلة او شريطا سينمائيا، حيث برزت في مصر ولاحقا في لبنان عدّة مجلات مخصصة للأطفال و”ناطقة” باللغة العربية، منها مجلة “السندباد” و “سمير وتهته” في مصر و “ميكي وبطوط” و”كابتن ماجد” وغيرها في لبنان.
ولكن الأحداث وغلاء أسعار الورق وإرتفاع كلفة الطباعة إضافة إلى تعذّر إمكانية الأهل من توفير شراء هذه المطبوعات لأطفالهم أدى إلى توقفها.