
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد في الـ8 من كانون الأول/ ديسمبر الجاري مجرد حدث سياسي أو عسكري، بل مثّل نهاية فصل مظلم من الحكاية السورية، حكاية ديكتاتورية عائلية امتدت على مدار 54 عاماً ورأينا أبشع صورها من خلال ما تناقلته وسائل الإعلام من أقبية سجن صيدنايا الذي اجتمع السوريون على تسميته بـ”المسلخ البشري”. كانت لحظة انهيار عظمى كشفت عن هشاشة الأنظمة القمعية مهما بلغ جبروتها، فسقطت عبارة “للأبد” إلى الأبد.
لم يكن الأدب يوماً محايداً في مواجهة الاستبداد، ويُعدّ سقوط الأسد تجسيداً حياً لهذه العلاقة الأبدية بين الطغيان والإبداع.
ولا شكّ أنّ الأدب سيُعيد صياغة هذه اللحظة الفارقة، وسيتردّد صدى أشعار السوريين التي كُتبت في الزنازين، وتخرج الروايات التي سجّلت فصول الألم والخوف لتشهد على ما كان. وهذا ما كتبه يوماً السوري مصطفى خليفة في روايته “القوقعة”، حينما وصف مآسي سجن تدمر العسكري، فصار رمزاً للخراب الإنساني.
كان الأدب- أيضاً- مرآة تعكس الواقع السياسي والاجتماعي، وأداة فعّالة لنقد الأنظمة الديكتاتورية وكشف ممارساتها القمعية. منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا، استخدم الكتّاب والشعراء أقلامهم لتسليط الضوء على استبداد الحكام، والتعبير عن معاناة الشعوب تحت وطأة الطغيان. في هذا المقال، سنستعرض العلاقة بين الأدب والأنظمة الديكتاتورية عبر مراحل تاريخية مختلفة، مع التركيز على أبرز الأعمال الأدبية التي تناولت هذه الإشكالية.
“ثورة الخبز واستبداد بونابرت”
شهدت فرنسا في القرن الثامن عشر انقلاباً كبيراً في نظامها السياسي والاجتماعي، حيث أطاحت الثورة الفرنسية عام 1789 النظام الملكي وأطلقت عصراً جديداً في التاريخ الأوروبي. وصفها المؤرخ الفرنسي أدولف تيير بأنها: “صرخة شعب جائع في وجه القصور المليئة بالطعام”.
تناولت العديد من الأعمال الأدبية هذا الحدث الجلل وما سبقه من استبداد ملكي، أبرزها “البؤساء” (Les Misérables) لفيكتور هوغو التي تصور القمع الاجتماعي والسياسي الذي كان سائداً في فرنسا في ظل النظام الملكي.
يعكس هوغو، من خلال شخصية “جان فالجان”، الظلم الاجتماعي والمعاناة التي عانت منهما الطبقة العاملة قائلاً: “طالما أن هناك جهلاً وبؤساً على الأرض، فإن الكتب مثل هذه قد تكون ضرورية”.
كتب المؤرخ والروائي النمساوي ستيفان زفايغ سيرة أدبية حول الملكة ماري أنطوانيت، الزوجة الأخيرة للملك لويس السادس عشر، عكس فيها حياة الملكة الشهيرة التي أصبحت رمزاً للترف والبذخ الملكي، وصور كيف أدّت تصرفاتها إلى زيادة كراهية الشعب للنظام الملكي واصفاً إياها بأنها: “لم تكن سوى طفلة في قصر لم يسمح لها بفهم آلام الشعب”.
الأدب في وجه الشمولية
أفضت الثورة التي دخلت في أتون الصراعات الداخلية والتمزق الدموي، لـ”تأكل أبناءها” كما صرخ جورج جاك دانتون وهو تحت المقصلة، إلى “ديكتاتورية نابليون بونابرت” الذي يصفه ليو تولستوي في روايته الشهيرة “الحرب والسلم” كشخصية متغطرسة ومهووسة بالسلطة، يسعى إلى تحقيق طموحاته الشخصية على حساب الشعوب. وانتقد فرانسوا رينيه دو شاتوبريان في عمله “مذكرات من وراء القبر” ديكتاتورية نابليون ومعارضته للقيود التي فرضها على الحرية الفكرية.
“مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، رغم أنها تمثل -إسقاطاً- للثورة البلشفية في روسيا 1917، فإنّ شخصية “نابليون” (الخنزير) تُعدّ إشارة إلى ديكتاتوريته، حيث يستولي على السلطة بطرق استبدادية كما يشير الكثير من نقاد “الأدب السياسي”.
تعرّض الأدب -أيضاً- لرقابة صارمة في ظل الأنظمة الشيوعية، بخاصة في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، ومع ذلك، نجح بعض الكتّاب في تهريب أعمالهم إلى الخارج، أو استخدموا الرمزية لنقد الأنظمة القمعية ومن أبرزهم: “أرخبيل غولاغ” لألكسندر سولجنيتسين التي توثق معسكرات الاعتقال السوفييتية، وتُعدّ شهادة حيّة على القمع الذي مارسته الأنظمة الشيوعية ضدّ معارضيها، و”دكتور جيفاغو” لبوريس باسترناك التي تتناول الرواية تأثير الثورة البلشفية والحرب الأهلية الروسية على المجتمع، وتُظهر الصراع بين الفرد والنظام.
شهدت ألمانيا قمعاً شديداً لحرّية التعبير مع صعود النازية بقيادة أدولف هتلر (1933-1945)، حيث تمّ حرق الكتب التي لا تتوافق مع الأيديولوجية النازية، واضطُهد الكتّاب المعارضون. رغم ذلك، ظهرت أعمال أدبية تناولت نقد الديكتاتورية بطرق مباشرة وغير مباشرة.
يقدّم جورج أورويل في رائعته “1984” -رغم أن الرواية نُشرت عام 1949، إلّا أنها تُعدّ نقداً للأنظمة الشمولية، بما في ذلك النازية- مجتمعاً يخضع لسيطرة “الأخ الأكبر”، حيث تُمحى الحقائق ويُقمع الأفراد. وتحكي رواية “خريف البطريرك” لغابرييل غارثيا ماركيز عن ديكتاتور يعيش لأكثر من مائتي عام، متعطش للدماء، قابض على كل طرق التحكم والسيطرة التي يفرضها على الشعب رغماً عنهم.
الأدب والديكتاتوريات العربية
شهدت الدول العربية في العقود الأخيرة أنظمة ديكتاتورية قمعية، حيث تعرّض الكتّاب والمثقفون للاضطهاد مع اندلاع ثورات الربيع العربي في 2010-2011، وبرزت أعمال أدبية تناولت معاناة الشعوب وآمالها في الحرية فـ ” الكلمات تصبح طلقات، والأفكار تصبح معتقلات”.
تُعدّ رواية “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف واحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي تناولت قمع الأنظمة العربية، والتي تسرد قصة السجين السياسي رجب إسماعيل، الذي يعاني من التعذيب الوحشي بسبب أفكاره. ويلخص منيف معاناة سجينه بالتساؤل: “كيف يمكن الإنسان أن ينسى لحظات الإذلال، والجسد المكبّل، والألم الذي يصرخ في أعماقك؟”.
تتناول كذلك، رواية “الكرنك” لنجيب محفوظ حقبة الستينات في مصر، وتسلّط الضوء على الاعتقالات السياسية والتعذيب في السجون. من خلال شخصياتها الرئيسة، تعكس الرواية كيف تُمارس الديكتاتوريات القمع لإسكات الأصوات الحرة. ففي “السجون، تُقتل الأحلام أولًا، ثم يُقتل أصحابها”.
تُعدّ رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي من أبرز الأعمال الأدبية التي تناولت مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين والفوضى التي شهدها العراق.
استخدم سعداوي فيها أسلوباً رمزياً عبر شخصية “هاتم”، الذي يجمع أجزاء جثث ضحايا العنف ليخلق “شُسْمَه”، وهو مخلوق يعكس عبثية العنف السياسي والديني.
وتطرقت أيضاً رواية “الوشم” لعبد الرحمن مجيد الربيعي لـ”قمع النظام البعثي” وتدخّل الدولة في أدق تفاصيل حياة المواطنين، وتسلّط الضوء على الخوف الذي يعيشه العراقيون تحت حكم النظام قائلاً بأن: “الخوف في هذا البلد ليس حالة نفسية، بل هو الهواء الذي نتنفسه”