أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في حديث لصيحفة “لوفيغارو” أن المصرف المركزي هو الركيزة المتينة الأخيرة للبلد، نافياً تهم الإثراء غير المشروع الموجهة ضدّه.
يشهد لبنان أزمة مالية خطيرة. فالبلد متخلّف عن الدفع منذ آذار 2020، وقيمة الليرة اللبنانية تراجعت تسعة أضعاف مقابل الدولار ما أدّى إلى تآكل أموال صغار المودعين اللبنانيين. كيف وصلت الأمور الى هذا الحدّ؟
عانى لبنان عجزين كبيرين: العجز الأول بسبب الموازنات التي اعتمدتها الحكومة وأقرّها مجلس النواب، التي لم تأخذ ضرورة الإصلاحبعين الاعتبار بل أجرت زيادات ملحوظة في أجور القطاع العام في تشرين الثاني 2017، في حين يتعلق العجز الثاني بالحساب الجاري لميزان المدفوعات الذي يعزى إلى واردات مفرطة تتجاوز احتياجات البلد، فعلى مدى ثلاث سنوات، بين عامي 2017 و2019، وصلت وارداتنا إلى65 مليار دولار.
واليوم، إنخفض حجم وارداتنا إلى النصف، ما مفاده خاصةً أن لبنان استورد لنفسه وكذلك لسوريا. وبالإضافة إلى هذين العجزين اللذين يصوّب عليهما صندوق النقد الدولي والناتجين أصلا عن قرارات سياسية، زادت الأوضاع صعوبة منذ نهاية عام 2019 بسبب إغلاق المصارف، وانفجار مرفأ بيروت، وتخلّف الحكومة عن الدفع في آذار2020 والأزمة الصحية العالمية.
الصحافة اللبنانية وعدّة تقارير دولية تتّهمك بالإثراء غير المشروع واختلاس أموال. ما هو ردّك؟
إنّ هذه الادعاءات عارية عن الصحة جملة وتفصيلا. لم أمتلك يوما أي أموال غير مشروعة، ولم أختلس أي أموال على حساب البنك المركزي، لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر. وبتاريخ 8 نيسان 2020 شرحت على قناة وطنية ما هو مصدر ثروتي، وأبرزتُ الوثائق التي تثبت أنها كانت تبلغ 23 مليون دولار عام 1993 أي قبل أن أتوّلى حاكمية مصرف لبنان. جمعتُ هذه الثروة بعد العمل لمدة عشرين عامًا في قطاع المال، بفضل راتب شهري هام قدره 165 ألف دولار، ومن ثمّ أحسن المستشارون الذين تعاملت معهم إدارة هذه الأموال وتعزيزها.
أنا أصرّح عن جميع أصولي وممتلكاتي، بما فيها تلك المتواجدة في الخارج، وأدفع جميع الضرائب المتوجبة عليّ. لم أستخدم أبدا أي شركة واجهة على عكس ما يقوم به الكثيرون؛ فالشركات التي تملك عقاراتي قانونية وأنا هو المستفيد الحقيقي المعلَن. وهذه الشفافية بالذات تسمح لمن يريد استهدافي بتحديد اصولي وممتلكاتي داخليا وخارجيا، وبفبركة الأخبار انطلاقا من تحاليل خاطئة. جميع هذه الاتهامات هي بلبلة لتشويه سمعتي وتندرج في إطار حملة شيطنة ذات خلفيات سياسية وأيديولوجية.
إنما هناك إجراءات قضائية في سويسرا ولبنان، إلى أين وصلت الآن؟
نعم، هناك تحقيق أوّلي يجري في سويسرا مبنيّ على إفتراء. لا يمكنني الإفصاح عن أي معلومات حفاظا على سرّية التحقيق، إنّما أكرّر أنني لم أستفد أبدا من أموال غير مشروعة على حساب مصرف لبنان، لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر.
ثمّة إلتباس كبير لدى من يسعى الى النيل من سمعتي إذ يتمّ الخلط بين الأموال العائدة لمصرف لبنان وتلك التي تمرّ عبره إنما تعود لعملائه، لا سيما مصارف تجارية خاصة أو مؤسسات مالية. فمصرف لبنان يحتفظ بأمواله الخاصة كما بأموال عملائه. وعندما أقرأ عن بعض الهجمات أو أسمع بها، أرى أن هناك إلتباسا خطرًا ومؤذيا. جميع العناصر اللازمة هي بحوزة القضاء وأنا بتصرّف المدعين العامين في هذين البلدين.
وصف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون النظام المعتمد منذ ثلاثين عاما لحجب عجز الدولة، بـ”مخطط بونزي”. هل ذلك صحيح؟ وفي مثل هذه الحال، أين تقع مسؤوليتك؟
على غرار الكثير من اللبنانيين، انّني ممتنّ للغاية للرئيس ايمانويل ماكرون لالتزامه من أجل إنقاذ لبنان وزيارته السريعة بعد الانفجار المأساوي في مرفأ بيروت. وفي ما يتعلق بـ”مخطط بونزي” المزعوم في مصرف لبنان، فبعد مرور عام ونصف على الأزمة، بات المركزي المؤسسة الوحيدة التي تموّل احتياجات القطاعين العام والخاص، وتؤمّن استيراد السلع الاساسية. فلو كان هناك “مخطط بونزي”، لكان النظام المالي انهار والاموال نفذت.
امّا بخصوص خياراتنا على مدى ثلاثين عاما، فكانت مهمّة المصرف تقضي بتأمين السيولة للاقتصاد. في بلد “مدولر” مثل لبنان، من الضروري ان يتمكّن المصرف المركزي من التدخّل في السوق بهذه العملة. كان علينا استقطاب السيولة بالعملات الأجنبية لتلبية احتياجات القطاعين العام والخاص، وفي المقابل، سحب أي فائض من العملات الأجنبية المتداولة. كان علينا بالتالي التدخل في السوق، ما تطلّب اللجوء الى “هندسات” للمحافظة على النمو الاقتصادي والقوة الشرائية للّبنانيين. وخلافا لما أقرأه، لم ندفع يوما معدلات فائدة مفرطة، بل انها منخفضة لدى مقارنتها بالمعدلات المطبقة في دول مجاورة كمصر او تركيا.
النظام لا يزال صامدا بفضل مصرف لبنان الذي جمع احتياطيات مهمّة من العملات الأجنبية.
كان هذا النظام مبنيّ على الثقة التي قوّضها العجز المتكرّر في موازنة الدولة. كما ألزم مصرف لبنان قانونيا بإقراض الدولة بموجب المادة 91 من قانون النقد والتسليف. وابتداءً من العام 2017، عند استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من السعودية، تحولت المؤشرات النقدية في لبنان إلى سلبية. عندها اهتزّ هذا النموذج. إنما لا يزال النظام صامدا بالرغم من كل ما يجري، وذلك بفضل مصرف لبنان الذي جمع احتياطيات مهمّة من العملات الأجنبية، على عكس مخطّط بونزي إذ لم يفلس اي مصرف منذ بداية الأزمة، والامدادات مستمرة.
مصرف لبنان هو الركيزة المتينة الأخيرة في البلد! رغم أنه المؤسسة الاكثر عرضةً للانتقاد، من خلال حاكمها …
ما هي الامكانات المتاحة اليوم امام لبنان ليتعافى ماليا؟
يملك لبنان احتياطيا خارجيا بقيمة 16350 مليار دولار، فضلا عن احتياطي من الذهب يساوي 18 مليار دولار، وهي أرقام مهمة تسمح بتفادي الانهيار. اذا، ثمّة إمكانات متاحة امام لبنان، مع انّي مدركٌ للصعوبات اليومية التي يواجهها بعض المواطنين. لقد وضعنا خطّة للخروج من الازمة، تتمثّل بالتعميم 154 الذي صدر في آب 2020. ففي حال تشكّلت حكومة وتمكّنت من استعادة الثقة، واستمرّ العمل بإرشادات المصرف المركزي، سيخرج البلد من الأزمة.
إذا ما هي خطّتك لإخراج لبنان من الأزمة المالية علما ان ولايتك تنتهي عام 2023؟
كان من المفترض تطبيق التعميم 154، وهو خارطة الطريق للخروج من الأزمة، في شباط 2021 على اقصى حدّ. وبحلول هذا التاريخ، رفعت المصارف رأسمالها بنسبة 20% كما طُلب منها. كما لديها الآن سيولة بنسبة 3% لدى المصارف المراسلة في الخارج. بذلت المصارف جهودا كبيرة لتحقيق هذه الغاية التي كان لا بدّ منها لإنقاذ القطاع. تلك هي خطوة أولى لتعود المصارف إلى خدمة عملائها بشكل طبيعي، فيتبيّن لأولئك بالفعل انّ اموالهم لم تتبخر كما يزعم البعض بطريقة غير مسؤولة.
ان نسبة الملاءة المحقّقة ستسمح قريبا للمصارف باستعادة نشاطها الائتماني. إنما كلّ هذه الأمور مناطة بالسياسة النقدية. فاسترجاع الثقة يتطلب إرفاق هذه الاجراءات بقرارات سياسية موجِّهة لها. كذلك ينبغي تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن لتسوية مشكلة عجز الموازنة وبدء المفاوضات مع الجهات المانحة.
من شأن كل هذه الأمور أن تؤدي إلى انخفاض رسمي في سعر الصرف فيتمكّن البلد من التوجّه نحو نظام سعر صرف عائم يبقى خاضعا للضوابط تفاديا لتقلّبات أو مضاربات كبيرة. وبالتالي، ليس هناك من حتمية. إن الأوقات عصيبة جدا بالنسبة إلى اللبنانيين، لكن الخروج من الازمة ممكن ويرتكز بشكل اساسي على ارادتنا.