«كنّا عم نحلق شعرنا صرنا عم نقبّع ضراس». هذه هي حال المصارف التجارية في لبنان، التي كانت «مؤسّسات العزّ» طوال السنوات الثلاثين الماضية، ووَجدت مصرف لبنان يُحوّلها بين ليلةٍ وضُحاها إلى «شبابيك صرافة». بدّدت أموال المودعين، وتوقّفت عن تقديم الخدمات المصرفية، فأعطاها «المركزي» عملاً ينتشلها من بطالتها. المنصّة الإلكترونية العائدة لمصرف لبنان، هي «الاختراع» الجديد الذي أُعلن عنه أمس، وستكون «المصدر الرسمي» لسعر الدولار في «السوق السوداء». لم تشهد دولة في العالم «رعاية» للسوق الموازية كما تفعل الدولة اللبنانية، التي عِوض أن تنشغل في مُعالجة أزمة سعر الصرف وأي نظام تُريد اعتماده وكيف يخدم برنامجاً اجتماعياً ــــ اقتصادياً، تلجأ إلى «قوننة» السوق السوداء، لأنّها لم تجد طريقة أخرى «لضبطها».
تحمّس حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة للمنصّة (إنتاج مُشترك بين جهات سياسية وأمنية ومصرفية)، مُفعّلاً حركته في الأيام الماضية تحت عنوان «خفض سعر الصرف». إلا أنّ «مُحرّك» سلامة للتدخّل لم يكن انهيار العملة ولا الغليان الشعبي ولا الضغوط السياسية المحلية، بل ما «أَسرّه» الفرنسيون في أُذنه خلال زيارته الأخيرة لباريس: «أولوية ضبط اقتصاد الكاش». خلال السنة الماضية، كبُر كثيراً التداول بالنقد في لبنان، بعدما احتجزت المصارف ما تبقّى من الودائع، وقيّدت السحوبات، وعرقلت عمليات الدفع عبر البطاقات الإلكترونية أو الشيكات، وطُلب من التجّار تأمين 10% أو 15% من مبالغ الاستيراد نقداً. اضطُر سكّان لبنان إلى «التزوّد» بالعملات الورقية، لتسيير أمورهم ولقلّة ثقتهم بالمصارف. ولكنّ الدول الغربية تنظر بريبة إلى توسّع حجم «اقتصاد الكاش»، لاعتبارها أنّه يُخفّف من تأثير العقوبات الاقتصادية على حزب الله ويُصبح هو المُستفيد الأول منه. انطلاقاً من هنا، كان المسؤولون الفرنسيون الذين التقاهم سلامة ــــ وقبلهم المسؤولون الأميركيون الذين يتواصل معهم ــــ واضحين لجهة ضرورة ممارسة مصرف لبنان واجباته القانونية في ضبط السوق. عاد سلامة إلى بيروت «مُقتنعاً» بـ«النصائح» الفرنسية، كما بمثيلتها الأميركية، وبدأ يُخبر من يلتقيهم أنّ حجم الكتلة النقدية في التداول يبلغ 35 ألف مليار ليرة، «من السهل عليه التدخّل لتجفيفها، عبر بيع الدولار في السوق. يكفي امتصاص ثلث الكتلة النقدية لتخفيف الضغط على سعر الصرف». ويُراهن سلامة على أنّ استقرار الليرة «سيُخفّف من قلق السكّان، ولهفتهم لبيع الليرات وشراء الدولارات، وبالتالي لن تُعرض كميات كبيرة من الليرة للبيع في الوقت نفسه». ويرى سلامة أنّ «خطّة المنصة» ستدفع إلى انخفاض سعر صرف الدولار إلى ما بين 8500 ليرة و9000 ليرة لكلّ دولار، أما في حال إنجاز التوافق السياسي وتأليف حكومة، فهو يتوقّع أن ينخفض السعر إلى ما بين 7000 ليرة و7500 ليرة لكلّ دولار!
الإعلان عن المنصّة تمّ من قصر بعبدا، بعد اجتماع بين سلامة ومستشار رئيس الجمهورية للشؤون المالية شربل قرداحي، «فأعلم الحاكم رئيس الجمهورية أنّ المصرف المركزي قرّر إطلاق العمل بالمنصة الإلكترونية العائدة له، بحيث يتمّ تسجيل كلّ العمليات وتُصبح هي المرجع الأساسي للسعر الحقيقي للسوق… قرار ​مصرف لبنان​ يتضمّن أيضاً السماح للمصارف، ابتداءً من الأسبوع المقبل، بالتداول بالعملات مثل الصرّافين الشرعيين وتسجيل العمليات بالسعر الحقيقي على المنصة، على أن تُتابع لجنة الرقابة على المصارف حُسن سير العمل. وسيتدخّل مصرف لبنان لامتصاص السيولة كلّما دعت الحاجة حتى يتم ضبط سعر الصرف»، بحسب نصّ البيان. كان مطروحاً على سلامة خيارٌ «أسهل»، يتمثّل بتطبيق قانون «تنظيم أعمال الصرافة»، الذي يحصر ممارسة أعمال الصيرفة بالمؤسسات المُرخّص لها من قِبل «المركزي». وأن يُطبّق عليها ما يُطبّقه على المصارف لجهة مُراقبة عمليات البيع والشراء اليومية، وخاصة أنّ القانون يسمح لمصرف لبنان بأن يحصل على البيانات والمعلومات التي يطلبها من شركات الصرافة، التي تخضع لمراقبة لجنة الرقابة على المصارف. لكنّ «المركزي» اختار إنشاء المنصّة، من دون الإجابة عن العديد من الأسئلة: ما هي آلية التنفيذ؟ ما هو مصدر الدولارات التي ستُضخّ فيها؟ من سيُحدّد سعر الصرف اليوم؟ وكيف ستُضبط السوق السوداء؟ هل ستتوقّف حركة الصرافين؟ تُدخل منصّة مصرف لبنان «لاعباً شرعياً» جديداً إلى سوق الصرافة، من دون أن تؤدّي إلى إقفال «السوق السوداء» نهائياً. ولكن يعتبر مسؤولون ماليون وصرافون أنّ «المنصة ستؤدّي إلى تنظيم السوق الموازية ولن يتمكّن أي صرّاف من البيع بفارق كبير عن السعر المُتداول لأنّه سيخسر زبائنه.

تخشى الدول الغربية «اقتصاد الكاش» لتخفيفه من تأثير العقوبات على حزب الله

وإيجابية المنصّة أنّها تُلغي تحكّم صرّاف أو اثنين بحركة السوق والسعر».
لم تُحسم بعد المسائل التقنية في ما خصّ المنصة، بانتظار اجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان يوم الاثنين. فما يُريده «المركزي» أن تُعيد المصارف مليار دولار من السيولة (3% من مجموع الأموال المودعة لديها بالعملات الأجنبية) التي كوّنتها في حساباتها لدى مصارف المراسلة في الخارج، لتُستخدم في تمويل أعمال الصرافة، على أن يتدخّل هو ويستخدم الدولارات المُتبقية لديه لشراء الليرة اللبنانية، كلّما وَجد ضرورةً لضبط سعر الصرف. السعر سيتحدّد حسب «العرض والطلب»، ومن المفترض أن يبدأ التداول على المنصة بحسب سعر صرف 10 آلاف ليرة. إلا أنّ المصارف لا تزال تُعاند، رافضةً أن تٌساهم بأي دولار لتمويل منصّة الصرافة. مصادر مُتابعة تؤكّد أنّ «الاتفاق أُنجز على أساس أنّ المصارف ستُعيد مليار دولار». يدلّ ذلك على التخبّط في قرارات مصرف لبنان، الذي أصدر بدايةً التعميم 154، مُجبراً المصارف على تكوين سيولة خارجية بما لا يقلّ في أي وقت عن 3% من قيمة الأموال المودعة لديه بالعملات الأجنبية. اشترت المصارف الدولارات من السوق اللبنانية، مُتسبّبة بزيادة حدّة انهيار الليرة، وزيادة العرض بالليرة اللبنانية، قبل أن «تُرحّل» المبالغ التي جمعت إلى الخارج، والآن يُريد «المركزي» إجبارها على إعادة نسبة من هذه السيولة!