تتعالى الأصوات في تركيا مطالبة بمكافحة شبكات احتيال إلكتروني وإتجار بالبشر امتدت عملياتها من كمبوديا إلى تركيا، وتستغلّ الأشخاص من خلال فرص استثمارية زائفة وأساليب تلاعب خادعة وقع ضحيّتها آلاف المواطنين الأتراك.
ويتّهم صحافيون ونشطاء، متابعون لقضية احتجاز تلك العصابات مواطنين أتراكاً في كمبوديا، الحكومة التركية بعدم بذل الجهود الكافية لتحريرهم، فيما يؤكد المعنيون في الحكومة والأجهزة الأمنية أن “القضية تحظى باهتمام ومتابعة من أعلى السلطات”.
فرصة عمل خياليّة تتحوّل إلى أسر
فاطمة.م شقيقة أحد ضحايا عملية الاحتيال والأسر التي وقع فيها مع العديد من أصدقائه قبل أشهر، وتمكّن من الهروب من العصابة بأعجوبة، لكنّه لا يزال عالقاً في كمبوديا إلى حين استكمال إجراءات السفر والأوراق الثبوتية المطلوبة.
وتروي فاطمة قصة شقيقها مصطفى البالغ من العمر 37 عاماً، والعامل سائقاً في شركة تجارية قائلة: “نتيجة تدنّي الرواتب وتردّي الظروف المعيشية وبالاتفاق مع صديقه، قرر شقيقي التقدّم إلى فرصة عمل تمّ الترويج لها عبر حساب تواصل اجتماعي”.
وتضيف فاطمة لـ “النهار”:”معايير الوظيفة كانت سهلة للغاية، المطلوب كان فقط تقرير طبي بالسلامة الجسدية والذهنية وإتقان اللغة التركية براتب 3000 دولار أميركي مع إقامة وطعام مقابل العمل لخمسة أيام أسبوعياً لمدة 10 ساعات يومياً”.
هذه الشروط دفعت مصطفى والآلاف مثله، بحسب النشطاء الأتراك، إلى التسرّع في قبول الوظيفة، من دون أن يكتشف الفخّ المنصوب له ولزملائه من الباحثين عن فرص عمل أفضل خارج البلاد.
ويشرح خبير الأمن السيبراني أرسين شاهموت أوغلو طريقة عمل الشبكات الإجرامية التي تستهدف الأتراك الباحثين عن فرص عمل، عبر الإعلان عن وظائف برواتب مغرية للعمل في مراكز اتصال أو شركات استشارات استثمارية.
يقول شاهموت أوغلو: “تُنشر هذه الإعلانات غالباً على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تُستخدم حسابات وصفحات وهمية لجذب الضحايا المحتملين، ويتم التواصل مع الضحايا من خلال إعلانات مغرية تعد برواتب مرتفعة وفرص مغامرة مثيرة في كمبوديا”.
تبييض أموال
بمجرد إبداء الضحيّة الاهتمام، تتكفل الشبكات الإجرامية بكل النفقات، بما في ذلك تذاكر الطيران والتأشيرات والإقامة، ما يجعل العرض يبدو أكثر جاذبية، وعند الوصول إلى كمبوديا، يتم استقبال الضحايا من قبل ممثلين ينقلونهم إلى فنادق فاخرة مملوكة لأعضاء الشبكة، ما يعزز شعورهم بالأمان الوهمي.
بعد فترة وجيزة من الضيافة الظاهرية، يتم نقل الضحايا إلى مجمّعات محصنة بشدة تشبه السجون الحديثة، محاطة بجدران عالية وأسلاك شائكة، ويجبر الأفراد داخل هذه المجمعات على العمل في ظروف قاسية تصل إلى 15 ساعة يومياً من دون استراحة أو إجازات، وتنفيذ نشاطات احتيالية مثل خداع مواطنين أتراك آخرين من خلال فرص استثمارية وهمية.
وتعتمد الشبكات على تكتيكات مختلفة لخداع الضحايا، بما في ذلك إنشاء منصات استثمارية مزيفة واستخدام حيل رومانسية لبناء روابط عاطفية مع الأهداف لإقناعهم بالاستثمار، وبعد تقديم عوائد صغيرة في البداية لكسب الثقة، يتم إغراء الضحايا باستثمارات أكبر تؤدي في النهاية إلى خسائر مالية ضخمة، ويشير أحد التقارير الصحافية التركية إلى خسارة مواطن تركي مبلع 25 مليون ليرة تركية (نحو 800 ألف دولار) في عملية احتيال إلكتروني.
وتنقل فاطمة عن شقيقها قصّة احتجازه تحت تهديد دائم، مع تهديدات بالعنف وعقوبات شديدة لكلّ من يحاول الهرب أو الإبلاغ عن وضعه للسلطات في المجمع المعزز بحراسة مسلحة عند كلّ مدخل، ما يجعل الضحايا معزولين وغير قادرين على طلب المساعدة بسبب المراقبة المستمرة وأساليب الترهيب التي يعتمدها الخاطفون، بالإضافة إلى تجريدهم من وثائقهم الرسمية.
ويشرح شاهموت أوغلو أن نشاطات العصابات الإجرامية تشمل عمليات غسيل ملايين الدولارات بوسائل متنوعة، وتحويل الأموال غير المشروعة إلى عملات رقمية ومن ثمّ نقلها عبر شركات في تركيا، بعضها تتركز في “البازار الكبير” في اسطنبول.
ويشرح شاهموت أوغلو: “تستخدم الشبكة حسابات مصرفية مؤجّرة وأرقام IBAN لتسهيل هذه العمليات، للحصول على واجهة شرعية، واعدين أصحاب هذه الحسابات بأرباح بنسب تصل إلى 5% عن كل عملية تحويل من دون أن يدرك المواطنون البسطاء الباحثون عن مورد إضافي خطورة ما يقومون به ليجدوا أنفسهم في معظم الأحيان في السجن بجرائم الاحتيال
وتبييض الأموال”.
مشكلة عالميّة
الشبكات الإجرامية في كمبوديا ليست قضية تركية فقط، بل تمثّل مشكلة عالمية أكبر، إذ يُقدر أن حوالى 10,000 شخص من دول مثل الصين، فيتنام، ماليزيا، وتايلاند محتجزون في هذه المنشآت، ما دفع الخارجية الأميركية إلى اعتبارها مشكلة كبيرة في جنوب شرقي آسيا.
وفي آب (أغسطس) 2022، أعلنت كمبوديا حملة ضدّ هذه الشبكات، مدّعية أنّها أنقذت أكثر من 2000 شخص واحتجزت العديد من المشتبه بهم، لكنّ تقارير إعلامية واستخبارية عالمية تؤكّد تورّط السلطات الكمبودية في هذه العمليات، إذ اتّهمت جهات أمنية أجنبية الشرطة الكمبودية بتعطيل جهود الإنقاذ وعدم اتخاذ إجراءات ضدّ المهرّبين المعروفين.
ويؤكد نشطاء حقوق الإنسان أن غياب المساءلة عن الجناة الرئيسيين يعني أن إغلاق عملية احتيال واحدة سيؤدي إلى فتح أخرى، نظراً إلى انخفاض الأخطار التي يواجهها المجرمون، من جهة، وحماية رجال أعمال وسياسيين نافذين لهم علاقات وثيقة مع الحكومة الكمبودية لهذه الشبكات، من جهة أخرى.
وتقدّر عائدات العمليات الاحتيالية غير المشروعة التي تديرها هذه الشبكات بما يتراوح بين 7.5 و12.5 مليار دولار، وهو مبلغ يوازي تقريباً نصف الدخل القومي لكمبوديا، ما يبرز التأثير الكبير لهذه العمليات على الاقتصادات المحلية والدولية.
وينتظر مصطفى.م الحصول على ورقة مغادرة من السلطات الكمبودية بعد أن تم احتجازه لمدة 3 أسابيع في المرة الأولى التي حاول فيها الحصول على المستند البديل لجواز سفره المحتجز، فيما يضغط الإعلام المحلي على الحكومة التركية لتفعيل المزيد من الآليات من أجل انقاذ الأتراك “الأسرى” في كمبوديا.