رحل المخرج والكاتب العراقي المقيم في برلين، قيس الزبيدي عن 85 عاماً، وهو من مواليد بغداد 1939، وبدأ اهتمامه بالسينما يتبلور خلال دراسته في ألمانيا، وتخرّج في معهد الفيلم العالي في بابلسبرغ. وقد حصل على دبلوم في المونتاج العام 1964، وآخر في التصوير العام 1969. كما حصل على درجة الإخراج لكتابته وتصويره ومونتاجه فيلمه “في سنوات طيران النورس”.
قيس الزبيدي، العراقي السوري الفلسطيني اللبناني البرلينيّ، العربي الذي ساهم في تأسيس السينما التسجيليّة العربيّة وتطويرها، وكان تركيزه على فلسطين التي تجسدت في أشرطته الوثائقية بعيداً من الفهم السطحي للقضية. وأورد المخرج السوري محمد ملص في كتابه “قيس الزبيدي… الحياة قصاصات على الجدار”: “لمعت في ستينيّات القرن المنصرم أسماء لا نعرف عنها الكثير. جيلٌ كامل ممن حلموا، وأنتجوا، وناضلوا، كل بطريقته في هذه البقعة من العالم، حيث مخاضٌ لا ينتهي. منهم من حمل بندقيّة، منهم من لوّح بقلم، ومنهم من حاول التحريض على الواقع عبر توثيقه على شاشة”. وتحت عنوان: “صورة شخصية رسمها قيس لنفسه”، نتعرف على مسقط رأس المخرج العراقي الذي ولد في حي الجسر العتيق- حي الحيدر خانة في بغداد، وكيف عاش طفولة ممزقة بين أبيه وزوجته من جهة، وأمه التي سيلتقيها في دمشق بعد غياب من جهة أخرى، وذلك بعد سنوات طويلة لعودته من دراسة السينما في ألمانيا. وكيف كان لخاله الشيوعي المولع بالمسرح، دور في تعريفه على يوسف العاني وسامي عبد الحميد، وعلى المونتير محمد شكري جميل، وكيف ساهم هذا الأخير في تعريفه على ألف باء فن المونتاج السينمائي.
قدّم الزبيدي أكثر من 12 فيلماً وثائقياً منها “بعيداً عن الوطن”(1969)، و”وطن الأسلاك الشائكة”(1980)، و”فلسطين سجل شعب”(1984). كتب وأخرج الفيلم الروائي التجريبي الطويل “اليازرلي” (1974). أسس “الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني” بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي في برلين ألمانيا. حازت أفلامه جوائز في مهرجانات عربية ودولية عديدة، وصدر عنه وعن أفلامه كتاب”عاشق من فلسطين”، للناقد محسن ويفي (القاهرة: وزارة الثقافة، 1995). وصدرت له الكتب التالية: “بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني: نحو درامية جديدة” (دمشق: دار قدمس للنشر، 2001)؛ “درامية التغيير: برتولت بريشت” (دمشق: دار كنعان، 2004)؛ “المرئي والمسموع في السينما” (دمشق: المؤسسة العامة للسينما، الفن السابع (112)، 2006)؛ “فلسطين في السينما” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2006)؛ “الوسيط الأدبي في السينما” (أبوظبي: مهرجان: أفلام من الإمارات، 2007)؛ “مونوغرافيات في نظرية وتاريخ صورة الفيلم” (دمشق: المؤسسة العامة للسينما، الفن السابع (177)، 2010)؛ “في الثقافة السينمائية – مونوغرافيات” (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، آفاق سينمائية (75)، 2013)؛ “الفيلم التسجيلي: واقعية بلا ضفاف” (رام الله، فلسطين: وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017)؛ “دراسات في بنية الوسيط السينمائي”.
كتب المخرج السوري هيثم حقي في فايسبوكه:
وداعاً قيس الزبيدي،وداعاً يا صديقي السينمائي حتى النخاع…
اليوم يرحل قيس الذي أخرج ومنتج وعاش حياة سينمائية خالصة وكان صديق الحوار الفلسفي، باحثاً في أشكال الفيلم ومعلماً في الإيقاع المونتاجي الذي تحوّل عنده لنمط عيش.. وداعاً صديقي الذي سيبقى في ذاكرة السينما السورية والفلسطينية والعراقية كلما ألصق شاب لقطتين “ليصنع معنى جديداً ليس موجوداً في أي منهما”… وداعاً صديقي الغالي… لك الذكر الطيب وللعائلة ولمحبيك المنتشرين على امتداد عالم السينما الذي أحببته وأحبك…
ودوّن الكاتب الفلسطيني حسن خضر:
أضاف قيس الزبيدي الكثير إلى السينما الفلسطينية: اخراجاً، وتوثيقاً، وتأريخاً، كما لم يفعل أحد، على مدار حياة أنفق قرابة ستة عقود منها في المؤسسات الثقافية والفنية للحركة الوطنية الفلسطينية. وليس هذا، بالضبط، ما ينبغي أن يُقال، بلا تفسير، في يوم رحيله، بل التذكير بحقيقة أن سيرته المهنية وخياراته الشخصية، تصلح وسيلة إيضاح لسيرة أعداد لا تُحصى من خيرة أبناء وبنات البلاد المصرية والشامية والعراقية والمغاربية، الذي التحقوا بالحركة الوطنية الفلسطينية، والتي ستبقى مدينة لهم، طالما لم تُصب ذاكرة الثقافة الوطنية بالعطب، ولم يعبث بها الأوغاد والوطنيون الجدد. لم تكن لحظة صعود الفلسطينيين في التاريخ، من صنع الفلسطينيين بالمعنى الحصري والبيولوجي للكلمة، بل كانت توليفاً غنياً وإبداعياً لجيل كان وسيبقى خير ما أنجبت المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي. بهذا المعنى العام نفكّر بقيس في يوم رحيله، وأما بالمعنى الشخصي فالخسارة ثقيلة يا صاحبي.
وكتب الناقد والمترجم السوري بدرالدين عرودكي:
قيس الزبيدي يرحل هو أيضًا. فنان نادر المثال في انسانيته، وفي طريقته في تجسيد الجمال في السينما عبر كل فيلم قام بتحريره (او عملية المونتاج) او بإخراجه، وكذلك في كل ما كتبه من أبحاث في فنون السينما التي كرس حياته لها.. وهو كذلك صديق عريق وحبيب أدين له بصحبة الصديق حميد مرعي بدعوتي للعمل في الموسسة العامة للسينما على اثر قراءتهما ما كنت أكتبه في النقد السينمائي في اواخر ستينيات القرن الماضي، وهو ما أتاح لي أن أتعرف على مزاياه الإنسانية والفنية خلال عملنا معًا في إعداد أول مهرجان للسينما بدمشق وكذلك في النادي السينمائي الذي كنت أديره، وتمكنا من دعوة المخرج الإيطالي بيير بازوليني والمخرج البولوني اندريه فايدا والمخرج الفرنسي الساخر جاك تاتي.. رحيله يضيف إلي الذين أحبهم هذا الصديق ويزيد في ثقل الألم ويضعف قدرة الاحتمال.. ستبقى أعمالك يا صديقي شاهدة على مسار فني كان تاجه الصدق والإخلاص وحب الفن الجميل. إلى اللقاء أيها الصديق الحبيب.
وكتب المخرج اللبناني محمد سويد:
وداعًا قيس الزبيدي، المونتير، المخرج، الروائي، التسجيلي، الناقد، المؤرخ، المترجم، المُنظّر والمعلم… للسينما أيضًا بيتٌ بمنازل كثيرة سكنها قيس من مسقطه العراقي مرورًا في دمشق وبيروت، وصولًا إلى منفاه الأخير في ألمانيا. بلاده جمّة، أوحدها وأحَبُّها إليه فلسطين.
وقال الناقد والسيناريست السوري زياد عبدالله:
وداعاً صديقي ومعلمي قيس الزبيدي. وداعاً على امتداد شريط سينمائي من هنا إلى برلين، ومونتاج لا ينتقي إلا لقطات وحيوات وأيام ولحظات وأفكار وأحلام كنتُ محظوظاً وممتناً أني عشتها وعايشتها معك، مستعيداً ما قاله بريشت عن رحيل لينين وكلاهما ممن تحب، وسيبهجهما أن أحيلها إليك، إلى مفارقتك حلماً سينمائياً لم تتخل عنه يوماً، وآخر رسالة منك كانت بوستر “واهب الحرية” وهو يعرض في باريس، كأن الشجرة قالت للأغصان: أنا راحلة.
***
وقبل أسابيع عُرض فيلم قيس الزبيدي “واهب الحرية”، المصور العام 1987، على شاشة la fleche d’or في باريس في نسخة مرممة مدتها 90 دقيقة. ويتناول الشريط عمليات المقاومة اللبنانية والفلسطينية التي انطلقت من جنوب لبنان ضد الجيش الإسرائيلي، وقد تنقل الزبيدي بين صيدا والجنوب والبقاع الغربي لإنجاز الفيلم الذي حظيت فيه صيدا بمساحة رحبة كونها شهدت بين العامين 1982 و1985، 560 عملية ضد القوات الإسرائيلية.