طوال ثمانية أشهر في عمر حكومته، ثم – إلى الآن وحتى أمد غير معروف – أربعة أشهر في عمر تصريف أعمالها بعد استقالته، لم يحلم الرئيس حسان دياب بهدية ثمينة غير متوقّعة كالتي قدّمها إليه قبل يومين المحقق العدلي القاضي فادي صوان، عندما ادّعى عليه وثلاثة وزراء سابقين بتهمة الإهمال والتقصير في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب. ما إن شاع خبر الادّعاء، حتى فُكّ الحصار السنّي الخانق المطبق على دياب من كل حدب في طائفته: ألدّ خصومه الرئيس المكلف سعد الحريري والرؤساء السابقون للحكومة ودار الإفتاء وسائر الشخصيات الدائرة في أفلاك هؤلاء مزيداً إليهم إطلاق العنان لهيئات وجمعيات تدافع عنه في معرض الدفاع عن موقع رئاسة الحكومة.
ما إن أطلق دياب عبارة سحرية فور تبلّغه ادّعاء صوان عليه، وهي أن المستهدف موقعه وليس هو رافضاً التعرّض إلى رئاسة مجلس الوزراء، حتى أضحى الرجل زعيماً في طائفته. لم يعد يُنظَر إليه على غرار ما عومل طوال 33 يوماً من تكليفه، ثم ثمانية أشهر من ترؤّسه الحكومة، ثم حالياً الأشهر الأربعة الأخيرة في تصريف الأعمال على أنه منبوذ في الشارع السنّي، وخارج عليه. لم يكن يزوره أي من أسلافه. بالكاد تستقبله دار الإفتاء أو تتحدث إليه في مناسبات محدودة جداً. لم يُعوّض هذا الفراغ بتوطيد علاقته برئيس الجمهورية ميشال عون، أو رئيس البرلمان نبيه برّي، أو حزب الله. تصرّف كأنه في غنى عنهم، ويكفيه المنصب. لا شارع سنّياً له كالرؤساء السابقين للحكومة، ولا كتلة نيابية تقف إلى جانبه. أشبه بمقطوع من شجرة. وهو كذلك. مُخوَّن لقبوله دخول السرايا على أنقاض الحريري. مع أنه ليس من رجالات طبقة العقود الثلاثة المنصرمة المتورّطة في الانهيار، إلا أنهم ألقوا عليه كل مثالبهم، فبات جزءاً من المشكلة بعدما صدّق أن ترؤسه الحكومة جزء من الحل.
قيل في رئيس الحكومة المستقيلة أكثر مما قيل في أربعة من أسلافه ظلمهم وجودهم في منصبهم في أسوأ محطات سياسية: سامي الصلح عام 1958 إبان «ثورة 1958»، وأمين الحافظ عام 1973 إبان النزاع المسلح اللبناني ـ الفلسطيني، والعميد أول الركن نور الدين الرفاعي عام 1975 في أولى سني الحرب، وشفيق الوزان عام 1983 تحت وطأة اتفاق 17 أيار والحرب السورية على لبنان. قيل عن هؤلاء ـ وكانوا في صلب الحيثية السنّية ـ إنهم تخلوا عن طائفتهم كي يقبلوا بالسلطة ويتضامنوا مع رئيس الجمهورية، فحوربوا من قياداتها بلا هوادة، وخرجوا مكسورين. أوشك الرئيس نجيب ميقاتي أن يكون من بين هؤلاء عندما ترأّس حكومة 2011 بعد إسقاط المعارضة حكومة الحريري الابن الذي حرّض الشارعين الطرابلسي والبيروتي مذهبياً ضده، وحاول إظهاره كأنه خارج على طائفته. بعد وقت قصير هدأ الرئيس المكلف الحالي وفضّل السفر أربع سنوات خارج البلاد ما بين عامَي 2011 و2015، فيما استمر ميقاتي وحكومته سنتين.
دياب خامسهم في اللائحة تلك حتى البارحة، عندما أعادته الطائفة إلى حضنها وعدّته زعيماً جديداً لها يدخل من الباب الواسع. لعل خير معبّر عن ذلك أن الحريري الذي استقبل دياب دقائق في 20 كانون الأول 2019 كرئيس مكلف بوجه مقطب من غير أن يلتفت إليه، وقاطعه مذّاك له كما الرؤساء السابقون للحكومة، سارع إلى زيارته في السرايا للتضامن معه.
ما يقتضي قوله بأن العبارة السحرية تلك، يدين بها رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى مدرسة الرئيس فؤاد السنيورة، الأب الأول لـ«الخط الأحمر السنّي». سابقة رَسْم هذا الخط حدثت في 2 كانون الأول 2006، عندما أمّ المفتي السابق الشيخ محمد رشيد قباني، بطلب من السنيورة، المصلين في القاعة الكبرى في السرايا، في رسالة إلى حزب الله مفادها أن السرايا صرح سنّي لا يسهل الوصول إليه إلا بنزاع مذهبي. حادثة لا مثيل لها حتى ذلك الوقت، وكانت جزءاً لا يتجزّأ من التحضير للاشتباك السنّي ـ الشيعي قبل أن ينفجر لاحقاً في 7 أيار 2008. تلاه «خط أحمر» ثان رسمه المفتي الخلف عبد اللطيف دريان من حول السنيورة أيضاً، من دون أن يكون رئيساً للحكومة أو نائباً حتى، في 4 آذار 2019، في ضوء ما سيق إلى الرئيس السابق للحكومة من اتهامات بإهدار 11 مليار دولار. تضامن معه الحريري ودريان من السرايا، فانقلب المشهد رأساً على عقب بأن بانت الطائفة السنّية كأنها هي بالذات المستهدفة.

رمية من غير رامٍ جعلت المنبوذ في طائفته زعيماً جديداً فيها

مذّاك صُرف النظر عن ذلك الموضوع بعدما اقترن أي تعرّض محتمل للسنيورة بانزلاق إلى نزاع مذهبي جديد. عِبرة الخط الأحمر الثاني أن اتهام أحد مهم في الطائفة بما سيق إلى الرجل، هو اتهام للطائفة كلها.
أعاد دياب اللعبة الناجحة نفسها. فإذا خبر الادّعاء عليه ثانوي، والمشكلة الجديدة الطارئة في البلاد أن ثمة طائفة برمّتها تصوّر نفسها الآن في دائرة الخطر والتهديد، وتضع نفسها في مواجهة خصم جديد لم تجرّبه من قبل هو القضاء، بعدما انضم مجلس القضاء الأعلى إلى قرار القاضي صوان ودافع عنه وبرّره. تسارعت ردود الفعل السلبية للقوى السياسية على الأثر كي تتجاوز التصويب على المحقّق العدلي لتثير الشبهات حيال القضاء، باتهامه تارة بانحيازه، وطوراً بقرارات استنسابية. هو نفسه مجلس القضاء الأعلى الذي ساندته القوى السياسية تلك، عندما جمّد رئيس الجمهورية التشكيلات الدبلوماسية.
شأن ما حدث في الخطين الأحمرين عامَي 2006 و2019، يؤذن ثالثهما بدفن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت إلى غير رجعة، لئلا يُكتشف وجود سياسيين ونافذين ضالعين في ما يتخطّى الإهمال والتقصير، إلى إحضار نيترات الأمونيوم وحمايتها والتسبّب في انفجارها. قد يكون من باب لزوم ما لا يلزم القول بأن «غضب» الطائفة السنّية من ادّعاء القاضي صوان على رئيس للحكومة وثلاثة وزراء يمثلون مثالثة النظام، يفتح الباب أمام طوائف أخرى كي تعترض وتجد نفسها هي المستهدفة لا المتورطين من أبنائها.