
يفترض ألا تكون أمام الحكومة الجديدة، إذا ما صدقت في ما يعلنه أركانها، أولوية تعلو على أولوية وقف التدهور والانهيار، والحد من مسار الذل المتمادي الذي يعيشه اللبنانيون. ومن بين القضايا الأساسية التي ستواجهها، تحرير سعر الصرف، إذ ستكون مضطرة في نهاية المطاف إلى اتخاذ هذا القرار، بغض النظر عن نتائج مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي.
لكن الأكيد، أنه في أي مفاوضات مقبلة مع الصندوق، يبرز توحيد سعر الصرف كشرط أساسي من ضمن برنامج الاتفاق المأمول معه، إذ لا يمكن الحديث عن خطة إنقاذ ونهوض اقتصادي في ظل 6 أسعار للصرف على الأقل: السعر الرسمي 1.507 ل.ل، والسحوبات الشهرية 3.900 ل.ل، ومنصة صيرفة حوالى 15.000 ل.ل تقريباً، ودولار دعم المحروقات على 8.000 ل.ل، والسوق الموازية نحو 16.000 ل.ل، بالإضافة إلى سعر السوق التجاري، إذ يتم تسعير السلع عملياً أكثر من سعر السوق بنحو 2.000 ل.ل أو أكثر.
الخبير المالي والاقتصادي وليد أبو سليمان، يرى، عبر موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “مسألة توحيد سعر الصرف ممكنة بطريقة سهلة، من خلال تحرير سعر الصرف، فتتولى عملية العرض والطلب توحيد السعر تلقائياً”، لافتاً إلى أننا “عملياً نقترب من سعر السوق الموازية في مختلف عمليات البيع والشراء”.
ويشير، إلى أن “عمليات بيع الدولار أو شرائه تتم بمعظمها في السوق الموازية حيث السعر الحقيقي للدولار. مع الإشارة إلى أن شراء الدولار، من الصرافين أو غيرهم، يتم بسعر أعلى من صرف المواطنين لدولاراتهم، بمعنى أن السعر الفعلي يكون تبعاً لكل عملية تُنجز، أما الأرقام التي تُنشر عبر التطبيقات المختلفة مسألة أخرى”.
ويعتبر، أنه “في حال تحرير سعر الصرف وترك المسألة لتوازنات سوق التداول الفعلي، نتخلص من الفوضى القائمة وتعدد أسعار الصرف. والملاحظ أن مصرف لبنان الذي لم يكن يعترف بالسوق الموازية بات اليوم عملياً يلحق بالسوق، أكان بالنسبة لسعر الصرف عبر منصة صيرفة أو رفع الدعم الكلي المرتقب في الأسابيع المقبلة، لأنه لا يمكن مقاومة قوة السوق الحقيقية وواقع العرض والطلب”.
أما بالنسبة للتعامل مع قضية سحب الودائع من المصارف، يلفت أبو سليمان، إلى أن “الإشكالية الكبيرة هنا”، موضحاً أننا “نواجه أزمة فريدة من نوعها، إذ لا نعاني فقط من أزمة نقد بل لدينا أزمة مصرفية حادّة تتمثل بودائع تفوق حجم الاقتصاد اللبناني بخمسة أضعاف. فالودائع تبلغ نحو 100 مليار دولار مقابل ناتج محلي بحدود 20 مليار دولار، فيما كل الأعباء والخسائر اليوم تُلقى على عاتق المودع”.
ويشدد الخبير المالي ذاته، على أن “عناصر الحل تبدأ بإقرار قانون الكابيتال كونترول، ومن ثم تبدأ المصارف بعدما كوَّنت مؤونة بالعملات الأجنبية خلال الفترة الماضية، بردِّ الدولارات للمودعين بالنسبة المئوية التي يحدِّدها هذا القانون”، مضيفاً أن “لمصرف لبنان أيضاً دوراً في هذه العملية، مع المليار و135 مليون دولار الذي دخلت إلى حسابه من حقوق السحب الخاصة بلبنان لدى صندوق النقد، بحيث يمكن إنصاف المودعين وردِّ جزء من ودائعهم بالدولار إليهم”.
ويضيف، “يبدو لافتاً ما تردد عن أن الصندوق أمَّن هذا المبلغ للبنان كدولار نقدي (Fresh dollar)، لا من خلال وضع وحدات حقوق السحب الخاصة (SDR) بتصرفه، وترك مسألة عرضها في السوق لاستبدالها بدولارات نقدية، بالاتفاق المباشر مع أي دولة، على عاتق لبنان”، مشيراً إلى أنه “حتى الساعة لا يزال الغموض يكتنف هذه المسألة وما جرى في الكواليس من اتفاقات، علماً أن حق النقض (الفيتو) في صندوق النقد بيد واشنطن”.
ويؤكد أبو سليمان، على “ضرورة ارتباط تحرير سعر الصرف بقانون الكابيتول كونترول، فنصبح أمام معادلة واضحة. مثلاً، ضمان أنه إذا تقرَّر في هذا القانون إتاحة استرجاع 60 أو 70% من الودائع بالدولار لأصحابها، يبقى 30 أو 40% منها مؤجلاً إلى السنوات المقبلة بعد الخروج من الأزمة”.
وإذ يشير إلى أنه “في كل برامج صندوق النقد هناك اقتطاع معين وخسائر”، يشدد على أنه “لا يجوز تحميلها فقط للمودعين بل يجب توزيعها بعدالة، ولا يمكن أن يستمر مصرف لبنان بطبع الليرة ومن ثم تقوم المصارف بردِّ دولارات المودعين بالليرة لا بالدولار النقدي، سواء عبر السحوبات الشهرية أو غيرها”.
ويطرح أبو سليمان، أنه “في ظل توجه مصرف لبنان والدولة لرفع الدعم، والبنك المركزي يعلن أنه يملك تقريباً 14 مليار دولار أو أكثر بقليل هي الاحتياطي الإلزامي للمصارف، وسيدخل إليه أكثر من مليار دولار من صندوق النقد بالإضافة إلى المساعدات الموعودة، في حين إن كلفة شبكة الأمان عبر البطاقة التمويلية أو غيرها حوالى 600 مليون دولار سنوياً كما يقولون، فليردّ المركزي جزءاً من أموال الاحتياطي للمصارف لتعيدها بدورها إلى المودعين ويتم إنصافهم ولو نسبياً”.
ويوضح، أن “أموال الاحتياطي الإلزامي هي للمصارف لكي تُستعمل حين تمر بتعثر معين ولا تتمكن من تسديد المودعين ودائعهم، فهل هناك تعثر أكثر من ذلك؟”، مشيراً إلى أن “مصرف لبنان يملك كامل الصلاحيات القانونية لخفض نسبة الاحتياطي الإلزامي من 15 أو 14% إلى 12 أو 10% أو أقل، لكن بالطبع يجب أن تعاد الأموال المحررة في هذه الحالة إلى المصارف لتعيدها بدورها إلى المودعين”.
أما بشأن احتساب تسديد القروض القديمة للسيارات والمنازل وغيرها، يقول أبو سليمان، “استثنائياً يبقى تسديد هذه القروض تبعاً للسعر الرسمي القديم، وإلا فسترتفع نسبة القروض المتعثرة وسينعكس ذلك على الاقتصاد ونكون كمن يدور على نفسه”.
ويضيف، “لا يمكن مثلاً لمن كان معاشه الشهري يوازي نحو 1.000 دولار قبل الأزمة ويسدد قرضاً شهرياً على سيارة بحدود 300 دولار تقريباً، أن يُطلب منه بحال تحرير سعر الصرف أن يدفع نحو 5 ملايين ليرة قيمة السند الشهري، خصوصاً وأن كثيرين إما فقدوا أعمالهم أو تراجعت أو باتوا يتقاضون نصف راتب أو أقل”.
ويرى، أن “صندوق النقد لن يتشدد لناحية التأكيد على الالتزام بشمولية تحرير سعر الصرف وفرض شروطه في هذا الإطار، إذ إن مسألة كهذه ستترك حتماً انعكاسات اقتصادية كبيرة وقد تتسبب بانفجار اجتماعي، علماً أن غالبية الرواتب في لبنان بالليرة اللبنانية”.
وبرأي أبو سليمان، أنه “في حال اعتُمدت الآلية المشار إليها، من ضمن اتفاق واضح ومتين مع صندوق النقد الدولي حول الإصلاحات البنيوية الضرورية في القطاع العام ومصرف لبنان والمصارف ومالية الدولة، وسائر الإصلاحات المتعلقة بمحاربة الفساد والتهريب وغيرها، على أن تُثبت الحكومة جدية ومصداقية تجاه المؤسسات الدولية والدول المانحة، يمكن عندها الحديث عن تحرير سعر الصرف والأمل بانعكاسات إيجابية”.
لكن أبو سليمان، لا ينفي أن “ثمة صعوبات قد تعترض هذا المسار، نظراً لضيق الوقت، ولأننا على مشارف معركة انتخابية نيابية طاحنة بين مختلف القوى السياسية تبعاً للحسابات السياسية المختلفة في ما بينها، والتي قد تطغى على مسألة الإصلاحات”.