إيلي القصيفي – أساس ميديا
“من واجب لبنان أن يوالفَ بين الحيادِ الذي يَحفظُ سلامتَه ورسالته، وتأييدِ حقوقِ الشعبِ الفلسطيني”.
إنّها الجملة التي أنهى بها البطريرك الماروني بشارة راعي الفقرة المخصّصة في عظته الأحد 16 أيّار للصراع الدائر بين إسرائيل والشعب الفلسطيني. وهي جملة كافية ووافية لردّ كلّ الاتهامات وحملات التخوين، التي وُجّهت إلى البطريرك منذ أطلق دعوته إلى حياد لبنان في ندائه الشهير في 5 تمّوز الماضي. وقد زعمت تلك الاتهامات أنّ البطريركية المارونية تحيّد لبنان عن أصل القضية الفلسطينية، وصولاً إلى قول الأمين العام لحزب الله، في خطابه في 29 آذار، إنّه “ليس صحيحاً أنّ المطلوب من لبنان هو الحياد، بل أن نصبح جزءاً من المحور الأميركي الإسرائيلي مثل ما يحصل مع بعض الدول العربية”.
في عظته الأخيرة أسقط البطريرك كلّ هذه الاتهامات، وهي اتهامات لم تكن أصلاً مبنيّة على وقائع، بل كانت ولمّا تزل تحريفاً لخطاب البطريرك، وهي لذلك اتهامات سياسية بحت، غايتها الأساسية منع أيّ خطاب سياسي يعبّر عن توجّهات كبرى في السياسات الداخلية والخارجية للبنان ولا ينسجم مع خطاب وسياسات حزب الله الذي لا يريد الإمساك بقرار السلم والحرب فحسب، بل واحتكار السردية اللبنانية للصراع مع إسرائيل.
وفي السياق نفسه، ترى أوساط سياسية قريبة من البطريركية المارونية أنّ تلك الاتهامات لم تصل أصلاً إلى بكركي، بل سقطت في “مكبّ برج حمود”. وتؤكّد أنّ مبدأ الحياد لا يمنع تأييد حقوق الشعوب، وبالأخصّ حقوق الشعب الفلسطيني، مشيرة إلى أنّ القضية الفلسطينية غير قابلة للنقاش لأنّ حقّ الشعب الفلسطيني واضح. وهذا أمر لا يعترف به البطريرك وحده، فالمجتمع الدولي أيضاً يؤيّده منذ عام 1948.
في عظته الأخيرة أسقط البطريرك كلّ هذه الاتهامات، وهي اتهامات لم تكن أصلاً مبنيّة على وقائع، بل كانت ولمّا تزل تحريفاً لخطاب البطريرك، وهي لذلك اتهامات سياسية بحت
أكّد البطريرك مرّةً جديدةً أنّ دعوته إلى حياد لبنان هي دعوة وطنية بحت لأنّ هدفها “حفظ سلامة لبنان ورسالته”. وهي دعوة تجمع بين مبدأين سياسيّين وطنيّين: الأوّل إخراج لبنان من سياسات المحاور لأنّ سلامته ورسالته تتعرّضان للخطر عندما يكون جزءاً منها، والثاني التزام لبنان قرارات الشرعيّتين العربية والدولية، ودعم لبنان للقضايا العربية المحقّة، وفي مقدّمها القضية الفلسطينية.
وليس أكثر دلالة على هذا التوجّه البطريركي من اعتبار الراعي في عظته أنّ من واجب لبنان أن يوالف بين حياده وبين تأييده الحقوق الفلسطينية، واضعاً هذه الموالفة في مرتبة الواجب الوطني لا الخيار السياسي الانتقائي لفريق أو لآخر.
يضيء البطريرك مرّة جديدة على أصل دعوته لحياد لبنان، بما هي دعوة ترمي إلى إعادة ترميم الحيّز الوطني اللبناني من خلال منع أي فريق لبناني من تحويل لبنان إلى ساحة أو منصّة للصراع الإقليمي والدولي، مع ما يستبطن ذلك من تجذير للانقسامات اللبنانية لأنّ “لبنان الساحة” هو نقيض “لبنان المستقلّ”، أي نقيض منطوق الدستور وآفاقه التي تضمن وحدة لبنان دولةً ومجتمعاً.
هذا منطلقٌ رئيسٌ للبطريركية المارونية في مقاربتها للصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني. فهي تفصل بين تأييدها لحقوق الشعب الفلسطيني، وبين احتمالات الاستثمار الإقليمي والدولي في هذا الصراع. وهي احتمالات تشمل لبنان حكماً ما دام حزب الله جزءاً لا يتجزّأ من محور إقليمي ذي أولويات واضحة.
وتشدّد الأوساط عينها أنّه “لا يمكن للحياد أن يكون بأيّ شكل من الأشكال ضدّ حق الشعب الفلسطيني، ولكن تأييد لبنان لهذا الحق لا يعني مشاركته عسكرياً في الصراع الدائر بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، خصوصاً أنّ قرار الحرب من الجانب الفلسطيني هو قرار غير واضح، لأنّ من اتّخذه هو حركة حماس وليس السلطة الفلسطينية. ولا يستطيع لبنان أن يتورّط بحرب كهذه، حتى لو كانت هذه المنظمة افتراضاً، أي حماس، تدافع عن حق الشعب الفلسطيني”.
ولعلّ الفصل البطريركي، بين تأييد الحقوق الفلسطينية في وجه المظالم الإسرائيلية وبين التوظيفات الإقليمية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يأخذ راهناً معناه الأقصى بالنظر إلى كون اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة هي شديدة القابلية لفتح أبواب هذا التوظيف على مصراعيه، ولا سيّما أنّ الصراع الأمني، بين إيران وإسرائيل على ضفاف “حوار فيينّا” لإعادة إحياء الاتفاق النووي بين مجموعة الخمسة زائداً واحداً وإيران، يبلغ أوجَهُ الآن في ظلّ الاستهدافات البحرية المتبادلة بين الجانبين والعمليات الأمنيّة الإسرائيلية في الداخل الإيراني.
إذّاك تقدر العوامل الإقليمية والدولية المؤثّرة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في أيّ لحظة، أن تحوّل هذا الصراع من كونه بين شعب مظلوم يدافع عن حقوقه الأساسية ودولة احتلال محكومة بسياسات عنصرية وفاشية، إلى آخر يشكّل إحدى الساحات الخلفيّة لصراعات إقليمية ودولية على خريطة النفوذ في المنطقة.
ليس أكثر دلالة على هذا التوجّه البطريركي من اعتبار الراعي في عظته أنّ من واجب لبنان أن يوالف بين حياده وبين تأييده الحقوق الفلسطينية، واضعاً هذه الموالفة في مرتبة الواجب الوطني لا الخيار السياسي الانتقائي لفريق أو لآخر
ولذلك كانت دعوة البطريرك للسلطاتِ في لبنان إلى “ضبطِ الحدودِ اللبنانية الإسرائيليّة، ومنعِ استخدامِ الأراضي اللبنانية منصةً لإطلاقِ الصواريخ”، تهدف إلى منع تحويل لبنان إلى ساحة خلفية إضافية لهذا الصراع، بحيث يحيد تأييده لقضية الشعب الفلسطيني عن مساره الطبيعي، ويغرق في “الصراعات غير المضبوطة”، بحسب التعبير البطريركي.
إنّ انحياز البطريركية المارونية إلى حقوق الشعب الفلسطينيّ، بحسب الأوساط نفسها، هو انحياز واضح منذ عام 1948، ولا يحتاج إلى تأكيد لا اليوم ولا غداً. وقد كان البطريرك واضحاً في تأكيده أنّه يستحيل على إسرائيل أن تعيشَ بسلامٍ من دون القبولِ بدولةٍ فِلسطينيّةٍ قابلةٍ للحياة، فلا سلامَ من دون عدالةٍ، ولا عدالةَ من دون حقّ.
وبذلك يؤكّد البطريرك أنّ حجّة إسرائيل، بأنّ الفلسطينيين لا يريدون السلام، هي حجّة ساقطة ما دامت إسرائيل لا تعترف بالحقوق الفلسطينية التي يعدّ تحقيقها شرطاً لازماً للسلام. وفي السياق نفسه، يشدّد البطريرك على حقّ الشعب الفلسطيني الطبيعي والمشروع في الدفاع عن حقوقه. وهذا نفيٌ مُطلقٌ للتُّهم الموجّهة إلى البطريرك بأنّ دعوته إلى حياد لبنان تنطوي على دعوة إلى تحييده عن تأييد حقوق الفلسطينيين.
وإذا كانت هذه الأوساط تشدّد على وضوح أهداف الدعوة البطريركية إلى حياد لبنان، فهي تستغرب، في المقابل، كيف أنّ دولةً ينصّ دستورها على الحياد، مثل النمسا، رُفِعت فيها الأعلام الإسرائيلية على مقرّات رسمية في انحياز مطلق إلى جانب إسرائيل التي تقصف الشعب الفلسطيني. واعتبرت أنّ على الدول التي ينصّ دستورها على الحياد أن تلتزم ذلك لئلّا يتحوّل الحياد إلى وجهة نظر على الساحة الدولية.