بعد بيانَي توجيه الاتهامات أحدها إلى الآخر، ومن ثمّ التوضيحات المسائية المباشرة وغير المباشرة عبر وسائل الإعلام، تبادل رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي رسالة إيجابية مشتركة، هي رغبتهما في المضي في التعاون لتأليف الحكومة وتجاوز عقباتها الأخيرة.

مع أن كليهما، منذ تكليف ميقاتي في 26 تموز، أبرَزا في الظاهر على الأقل أسلوباً مختلفاً في مقاربة التأليف، خالياً من الأحكام المسبقة والاعتبارات الشخصية والعناد المعلن، من غير أن يتخليا عن السقوف العالية المستمرة منذ تكليف الرئيس سعد الحريري، إلا أنهما أضحيا أسيري معظم ما رافق التكليف السابق، وخصوصاً في معضلتين أخفق عون والحريري في التفاهم عليهما هما الثلث + 1 والوزيران المسيحيان الأخيران، بينما نجح عون وميقاتي في تجاوز ثالثة المعضلات تلك المرتبطة بمآل حقيبتي الداخلية والعدل، وكانت هاتان إحدى الدوافع البريئة المعلنة في أحسن الأحوال التي حملت الرئيس السابق على الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة.
حيث نجحا بمرور أكثر من شهر بقليل على التكليف في إبقاء القديم على قدمه حيال الحقائب السيادية، وتالياً ترك حقيبة الداخلية بين يدي السنّة والعدل بين يدي رئيس الجمهورية ـ وكلاهما يعرفان أهمية دوريهما في الانتخابات النيابية المقبلة وكذلك فاعلية التدخّل فيهما لتوجيه مسارها ـ لا يزال يتعثر سبل إبراز حسن النيّات بين عون وميقاتي بإزاء ما يتردّد من أن رئيس الجمهورية مصر على الحصول على الثلث + 1 من الحكومة معلناً أو مموّهاً (تسعة مقاعد).
من حول هذه المعضلة، عاد إلى الظهور الخلاف على تسمية الوزيرين المسيحيين الأخيرين، بعد الأخذ في الحسبان توزّع الوزراء المسيحيين الـ12 على 7 وزراء لرئيس الجمهورية زائداً واحداً لحليفه حزب الطاشناق، و3 وزراء اثنان منهم لتيّار المردة وثالث للحزب السوري القومي الاجتماعي.
في التفاوض الدائر في قصر بعبدا، إن تسمية عون أحد الوزيرين المسيحيين المتبقيين، يمنحه ما لا يوافق عليه ميقاتي ومن ورائه الحريري ونادي رؤساء الحكومات السابقين، لكن أيضاً رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي أكده مراراً وآخر المرّات في خطاب 31 آب، ناهيك بحلفاء هذا الفريق دونما احتساب حزب الله بالضرورة، غير المكترث بالثلث +1 وغير المقتنع بجدواه وفاعليته، هو الوحيد الذي يملك سلاح إعطابه في كل وقت كما سلاح منحه لمَن يعوزه.

تحدّيان خطيران ينتظران حكومة ميقاتي: تعذّر إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية

عند هذا الحدّ يرفض الرئيس المكلف وضع أي من الوزيرين المسيحيين الأخيرين في حصة رئيس الجمهورية تفادياً لذاك المحظور. لم يتفق الرئيسان على وضع الوزيرين المختلف عليهما في منطقة محايدة تفصل ما بينهما، ما داما ملزمين تفاهمهما على تسميتهما كي تصدر مراسيم الحكومة. ليس سرّاً أن كلاً من عون وميقاتي يريد موطئ قدم له في أي من الوزيرين هذين على الأقل. يعرفان أيضاً أن أحداً منهما لا يسعه الاستئثار بهما معاً. أضف عاملاً مهماً للغاية يتقاسمانه، وتتقاطع عنده صلاحياتهما الدستورية التي ليس لأي منهما تجاهل ما يملكه الآخر: الرئيس المكلف صاحب الاختصاص الدستوري في اقتراح الوزير المرشح، ورئيس الجمهورية حامل الختم النهائي.
يتساوى الرجلان في فرض الممنوعات: لا يتساهل رئيس الجمهورية حيال تخليه عن مقعد مسيحي يُحتسب في حصة مرجعية إسلامية بلا أي مقايضة، ما دامت كتل السنّة والدروز والشيعة اختارت بنفسها وبمفردها بلا مقاسمة وزراءها. بدوره الرئيس المكلف ـ على نحو مطابق لوجهة نظر الحريري ـ لا يوافق على التسليم لعون وحده بالحصة المسيحية كلها. إذذاك يصبح الوزيران المسيحيان الأخيران أثمن بنود صفقة الرئيسين.
باتت هذه العقدة علّة العلل والعقبة الكأداء الموضوعة في عهدة وساطة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.
مع أن الاعتقاد السائد أن تنافس الرجلين على المقعدين المسيحيين الأخيرين أو على أي منهما، أياً تكن مواصفات الموزَّر، لا يعدو كونه تسابقاً على الحصول على الحصة المثلى لكل منهما، وتعزيز موقعه داخل مجلس الوزراء، لكن أيضاً حيال الحقائب المعوَّل على دورها الثمين في مرحلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ثم في ما بعد البنك الدولي، بشهادة توزّعهما حقيبتي الشؤون الاجتماعية لعون والاقتصاد لميقاتي، بيد أن تسابقاً كهذا يتوخى أيضاً الاستعداد للأخطار المقبلة المرجّحة.
لا أوهام حقيقية لدى أي من الأفرقاء المنخرطين في التأليف مع عون وميقاتي، بأنهم أمام حكومة إصلاحات بنيوية جوهرية، على نحو ما نصح به صندوق النقد الدولي مراراً، وحضّت عليه المبادرة الفرنسية ومن قبل مؤتمر سيدر وصولاً إلى المؤتمرات الأخيرة. ليست حكومة إصلاحات تجريها القوى المشكو من أنها وراء تدمير الاقتصاد والنقد الوطنيين، وانهيار كل مقومات الدولة بعد إفلاسها وإفقار شعبها وتغلغل الفساد في المجتمع والشارع. أضف أن مهمتها قصيرة ما بين خمسة وسبعة أشهر، مرتبطة بموعد الانتخابات النيابية المقبلة إذا قيّض لمراسيمها إبصار النور في وقت قريب. على أثر هذا الاستحقاق تُعدّ مستقيلة حكماً.
ليس على نحو كهذا يبصر المسؤولون والمعنيون بتأليف الحكومة ولايتها المقبلة. إذ تواجه استحقاقات ثلاثة على الأقلّ متدرّجة الأهمية. إلا أن ثالثها هو الأدهى:
أولها، أنها آخر حكومات عهد رئيس الجمهورية الحالي، ما يجعله في حاجة إلى حكومة يسعه التأثير في دورها ومهماتها، كي تتمكن من تحقيق حدّ أدنى من الإنجازات، إذا كان لا يزال في الإمكان توقّع أوهام كهذه.
ثانيها، أنها حكومة الانتخابات النيابية المفترض إجراؤها في أيار 2022 تبعاً لمهلها الدستورية. مع ذلك تتساوى حظوظ حصولها مع حظوظ تعذّره من غير أن يكون مضموناً تمديد ولاية البرلمان الحالي، المحفوف بمتاعب لا تقتصر على الداخل، بل سيجبه ما هو أقسى من المجتمع الدولي. مغزى ذلك وقوع مجلس النواب في فراغ دستوري ناجم عن استعصاء إجراء انتخابات عامة جديدة، كما عن إخفاق إمكان تدارك هذه الفجوة الدستورية، ما سيقود البلاد إلى التهديد الأخطر المؤذِن بالانهيار الشامل.
ثالثها، بتوقّعات قاطعة وحتمية غير مترجرجة، من غير المحسوب حصول انتخابات رئاسية بانتهاء ولاية عون في المهلة الدستورية ما بين آب وتشرين الأول 2022. الأسوأ في ما يمكن ترجيحه، استمرار حكومة ميقاتي إلى ما بعد نهاية ولاية رئيس الجمهورية الحالي متى تضافر تعطيل الانتخابات النيابية مع تعطيل الانتخابات الرئاسية.