الراي الكويتية
كل شيء في بيروت يشي بأن غالبيةَ الأطراف السياسية انتقلت من الصراع فوق سفينة «تايتنيك» إلى سلوكٍ أقرب إلى سعي كل منهم لبناء «سفينة نوح» للنجاة بنفسه من «الطوفان» الآتي، سواء كان ذلك نتيجة اقتناعٍ بأن الوقت فات لإنقاذ لبنان من السيناريو الأسوأ أو بفعل خيارٍ عن سابق تَصَوُّر وتصميم، يتقاطع مع مقتضياتٍ إقليمية لأفرقاء محليين، بترْك الاصطدام الكبير يحصل، إما من باب مقارعة مرحلة «مَن يصرخ أولاً» في آخِر جولات المواجهة الطاحنة بين إدارة دونالد ترامب وإيران، وإما في إطار حلول ساعة «البناء» على أنقاض «لبنان القديم» الذي تم قضْم توازناته و«فكرته» تباعاً في الأعوام الـ15 الماضية.
هذه الصورة البالغة القتامة استخلصتْها أوساطٌ واسعة الاطلاع وهي ترصد تَسارُع ترجماتِ الانهيار المالي على صعيد يوميات اللبنانيين الذين كانوا يراقبون أمس، بدء وضْع اللمسات الأخيرة على مسار ترشيد دعم المواد الاستراتيجية الذي يُعمل على أن يترافق لاحقاً مع إدخال الوطن الذي كان يوماً «سويسرا الشرق» حلقةَ دول «البطاقات التمويلية» التي يُراد أن تغطي «قوس الفقر» الذي يطاول أكثر من نصف السكان، فيما الطبقة السياسية تمعن في التلكؤ عن إحداث «الصدمة الكهربائية» المطلوبة لإحياء الأمل بإمكان إخراج لبنان من «الموت السريري»، بعضُها عن عجزٍ وبعضها الآخَر عن فائض استرهانٍ للبلاد للصراع الإقليمي المحتدم.
وشخصتْ الأنظار أمس، على أول لقاءٍ بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري بعد انقطاعٍ لثلاثة أسابيع، وسط تقديراتٍ أشارت إلى أن الأخير الذي يمتطي «حصان» المبادرة الفرنسية وشروطها اختار تَفادي إيداع عون تشكيلته المكتملة من 18 وزيراً بل عرَضها عليه ليكون ثمة مسودّة كاملة ينطلق منها النقاش الجدي، تلافياً لخطوةٍ يحشر فيها الحريري نفسه في زاويةٍ قد تفرض عليه الاعتذار بحال رفض رئيس الجمهورية توقيع مرسوم التشكيلة «كما هي» أو مع تعديلاتٍ طفيفة لم يكن ممكناً تَصَوُّر أن عون سيكتفي بها في ظلّ استمرار الخلاف حتى على حجم الحكومة التي يفضّلها فريق الرئيس من 22 وزيراً.
وإذ بدت حركة الحريري في إطار محاولة تحريك المياه الراكدة حكومياً وردّ كرة تحميله مسؤولية التأخير واختبارِ حقيقة نيات فريق عون «على الورقة والقلم»، فإنّ الأوساطَ المطلعة لم ترَ موجباً للاعتقاد أن المشهد الداخلي خرج من لعبة شراء الوقت أو تضييعه لاعتباراتٍ عدة تُفضي الى نتيجة واحدة وهي أن «الكوارث» تقترب من الإطباق على لبنان الذي انتقلَ إلى منحدرٍ جديد في رحلة الهبوط إلى القعر السحيق وهو ما عبّرت عنه بوضوح وكالتان تابعتان للأمم المتحدة (اليونيسيف ومنظمة العمل الدولية) لم تتوانيا عن تأكيد «أنّ إلغاء الدعم من دون ضمانات لحماية الفئات الأكثر ضعفاً سيصل إلى حد كارثة اجتماعية»، محذرتين من «عدم وجود وسيلة لتخفيف الضربة».
وفي موازاة ذلك، لم تكن عابرة «النقزة» التي أحدثتْها في صفوف الائتلاف الحاكم الذي يقوده «حزب الله»، «أَوْرَبَةُ» المبادرة الفرنسية حول الوضع اللبناني والتي ترتكز على قيام حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين وبعيداً من المحاصصة السياسية لتنفيذ إصلاحاتٍ عاجلةٍ تراها الولايات المتحدة ودول الثقل العربي مدخلاً أيضاً لتقويض نفوذ «حزب الله» على الدولة ومَرافقها ومؤسساتها.
فحتى قبيل اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أمس، حيث بحثوا «أفكاراً ألمانية» لإنقاذ لبنان، نُقل عن قريبين من «حزب الله» أن هذا المسار يرث المبادرة الفرنسية، في موازاة تعاطي الآخَرين معه على أنه يستند على هذه المبادرة ويعطيها قوةَ دفْع تستفيد أيضاً من انتقال اوروبا الى مرحلة التشدّد الناعم حتى الساعة مع إيران وفق ما عبّر عنه البيان الذي صدر عن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا حول الملف النووي.
وفي حين تبلورَ توجُّس «حزب الله» من المبادرة الأوروبية حول لبنان عبر ربْطها من إعلام قريب منه بأنها خلاصة تنسيق أميركي – ألماني «مع ما يعني تقدُّم برلين واجهة المبادرة هي التي صنّفت حزب الله بكلّيته إرهابياً» مع تلميحٍ إلى أن عنوانها سيكون «المواجهة (بدفْع من إدارة ترامب) مع الحزب»، كان الملف اللبناني يحضر في القمة التي عُقدت في باريس بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ونظيره المصري عبدالفتاح السيسي الذي وجّه نداءً الى القوى السياسية بإعطاء فرصة لحكومة تحلّ مشاكل بلدهم، مشيراً إلى أن القاهرة لم تتخلّ عن لبنان، وذلك بعدما كان ماكرون الذي يستعدّ لزيارة بيروت في غضون أسبوعين أعلن أن «لبنان يعاني عدم تنفيذ المسار السياسي المطلوب، وشعبه يجب ألا يبقى رهينة بيد أي طبقة سياسية».
في موازاة ذلك، برزت إشاراتٌ مُقْلِقة إلى منحى خليجي أكثر صرامة بإزاء لبنان وهو ما ظهّرتْه «وكالة الأنباء المركزية» التي نقلت عن مسؤولين خليجيين «أن بيروت أمام أسابيع مفصلية لتحديد علاقتها بدول مجلس التعاون الخليجي، فإما تكون حيث يجب الى جانب أشقائها العرب، وبالتالي تُرمّم علاقتها بالخليج من خلال وقف الحملات الإعلامية والسياسية التي تتناول هذه الدول، ولا سيما السعودية من حلفاء إيران في لبنان وعلى رأسهم حزب الله، الذي عليه وقف الدعم العسكري للحوثيين في اليمن، وإلا فلتتحمّل نتائج سياساتها وتبقى في الحصار فتخنق شعبها أكثر وتعزل نفسها عن محطيها العربي».
كما نقلت عن ديبلوماسي عربي تخوّفه من أن لبنان مقبل على «كارثة حقيقية» مع دول الخليج تكون أبرز تجلّياتها وقف تأشيرات دخول اللبنانيين، كما تفعل الإمارات.