
بقلم خلدون الشريف
في النصف الأول من العام 2024 وفي لقاء مصغّر جمع الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، والسفير الفرنسي إلى بيروت إيرفيه ماغرو، دار حديث عن احتمالات اندلاع حرب على لبنان على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة. وآنذاك، لفت ماغرو نظر الحاضرين إلى أنّ ما قد نشهد خلال هذه الحرب المحتملة سيكون “غير مسبوق”. فأردفت بالقول إنّنا سبق وعشنا حرباً كهذه، وإنها ستكون بمثابة “déjà vu”، إلاّ أنّ ماغرو أجاب “لا”. فعدت وكرّرت ما قلته، ليؤكّد ماغرو “لا”. وعندما أصرّيت على رأيي بالحرب المحتملة للمرة الثالثة، انتفض ماغرو بكلّ أدب قائلاً إنّ الحرب هذه المرة ستكون غير مسبوقة.
وهذا ما حصل فعلاً، فما شهدناه خلال الشهريْن الماضييْن كان غير مسبوق. وعليه، أدين باعتذار للسفير الفرنسي. وفي الحقيقة، لو تلقّت أعتى الدول الضربات التي تلقّاها “حزب الله” في هذه الحرب، لسقطت أنظمة وجيوش، إلاّ أنّ كلّ ما جرى كان في لبنان. ولذلك، تزعزع الحزب ولم يسقط، تماماً كما يحصل مع أحزاب أصغر وجماعات أقل عدداً وتأثيراً. فهل كان أحد ليتصوّر أنّ الحزب الشيوعي وحزب “البعث” العراقي، بل و”المرابطون” و”الأحرار” وسواهم ما زالوا لاعبين، وإن بأثر محدود، على المسرح السياسي في لبنان؟
فرنسا تقايض وتعزّز دورها في لبنان
في المفاوضات التي دارت عبر الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين، أصرّ لبنان على أن تكون فرنسا في لجنة المراقبة واستبعد بريطانيا وألمانيا. وفرنسا، لأجل الدخول إلى هذه اللجنة، تخلّت عن بعض من شعار العدالة التي تحمل، من خلال تصريح الخارجية الفرنسية أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يتمتّع بحصانة بعد صدور مذكرة التوقيف من المحكمة الجنائية.
لفرنسا في لبنان دور لا يستبدل، فهي تتحدّث مع الفرقاء اللبنانيين كافة، وهي تحرص على وضع لبنان دائماً في الواجهة، مستفيدة من موقعها كقوة عالمية وكعضو دائم في مجلس الأمن. ومنذ عهد الرئيس شارل ديغول إلى عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، مروراً بالرئيس جاك شيراك الذي صادق لبنان ورئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، تعقد باريس المؤتمرات من أجل لبنان وتحضر في المفاصل السياسية الأساسية.
وبعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، غُيِّبت قضية القطاع عن المسرح العالمي، ودام العدوان وقتاً يسمح لنتنياهو بتدمير غزة دماراً شاملاً. أمّا عندما أطلقت اسرائيل عدوانها على لبنان، فاندفعت فرنسا لعقد مؤتمر من أجل دعمه، وإن كان ذا بعد إنساني.
وفرنسا التي تحمل قلم القرار 1701 في مجلس الأمن، ليست جمعية خيرية، فهي تحتاج لموطئ قدم في هذه المنطقة من العالم بعدما فقدت حضورها في العراق بعد الاجتياح الأميركي، وفي سوريا بعد الثورة، وفي إيران بسبب العقوبات. أمّا في المغرب العربي، فتبدو العلاقات الفرنسية مع دول هذه المنطقة شائكة، خاصة مع الجزائر، وكذلك الأمر في القارة الأفريقية، ولا سيّما دول الساحل. وفي سياق هذه التحوّلات، باتت فرنسا مستعدة للتمسك بشراسة بحضورها في لبنان. وللبنان واللبنانيين كافة مصلحة في ذلك لا ريب.
للولايات المتحدة الأميركية ناظمة الكون تاريخ بالاهتمام الكثيف والتخلّي السريع عن لبنان (please insert hyperlink)، أمّا روسيا، فحضورها في سوريا لا يسمح لها بالعمل على توسعته ليشمل لبنان، في حين أنّ الصين تصرّ على أنّها دولة نامية لا تستثمر إلا في بيئة مستقرة.
وليست العلاقات التاريخية ما يربط لبنان بفرنسا فحسب، اذ لفرنسا باعٌ طويل في انشاء المدارس والجامعات وحتى المستشفيات في لبنان ويصل عدد اللبنانيين حملة الجنسية الفرنسية إلى عشرات الآلاف، كما يبرز دور باريس على المسرح الاقتصادي اللبناني. فبين لبنان وفرنسا مرافئ وشركات نقل بحري تستثمر في مرفأي بيروت وطرابلس منذ سنوات طويلة في عقود قابل للتجديد. هذا وترأس شركة “توتال”، ثاني موزّع للمشتقات النفطية في لبنان، اتحاد شركات التنقيب عن النفط والغاز. كما تجمع البلدان شركات تعمل في مجال البناء مثل Saint-Gobain، وفي مجال الكابلات مثل Nexans، بالإضافة إلى شراكة بين الخطوط الجوية الفرنسية وطيران الشرق الأوسط، وشركة الخليوي “أورانج”، وشركات تأمين، ودواء، وغذاء ومواد تجميل. ولا تخفي فرنسا طموحها بالاضطلاع بدور في إعادة الإعمار وتطوير قطاع الخليوي، والبريد، والكهرباء، وسواها.
استخفاف فرنسي
لهذه الروابط وهذه العلاقة التاريخية، كي تكون مستدامة، تحتاج إلى اهتمام وجدية أكبر، في حين أنّ التعاطي الفرنسي مع أزمات لبنان والمنطقة يوحي بالخفة والاستخفاف. فكما أسلفنا، خضعت فرنسا مؤخراً للضغط الإسرائيلي مقابل كرسي في لجنة مراقبة وقف إطلاق النار. وليست هذه الخطوة الأولى الموحية بالاستخفاف في عهد ماكرون، فقد شهدت ولايته تحوّلات في مواقف الإدارة الفرنسية: بعد انفجار مرفأ بيروت وزيارتيْه الأولى والثانية اللتيْن دعا فيهما القوى السياسية إلى إجراء إصلاحات تلاقي طموح الناس والمجتمع الدولي، غيّر ماكرون موقفه وتبنّى تثبيت النخبة السياسية نفسها حتى قبل انتخابات 2022.
وعند تأليف اللجنة الخماسية حول لبنان، قرّر ماكرون، بخلاف رغبة كلّ الأعضاء، السير بخيار رئاسي كان يعمل عليه أحادياً، لكن الظروف والحرب وموازين القوى أسقطته. واليوم، يسعى ماكرون بما يملك من علاقات لإعادة انتاج حكومة تشبه ما سبق معوّلاً على عوامل شخصية حيناً ومصالح تجارية خاصة حيناً آخر. ولا يخفى على ماكرون أنّ العرب واللبنانيين بأغلبيتهم ينظرون إلى الاستحقاق الرئاسي كما الحكومي كمدخل لإعادة الثقة مع بلد قال هوكشتاين إنّ العرب ابتعدوا عنه لأمريْن: الفساد والاصطفاف السياسي.
في بداية الفراغ الرئاسي، قال ماكرون لعدد من محدّثيه، إنّه يستطيع إقناع الولايات المتحدة الاميركية والسعودية معًا بخياراته، لكنّه فشل. فمن جهتها، تريد واشنطن ضمان أمن إسرائيل وعدم قيام قوة عسكرية تواجهها. أمّا في لبنان، فتبدو الإصلاحات ملحّة، مثل الحاجة إلى إعادة تفعيل الاقتصاد، بل قد يكون هذا ما يحتاج إليه الإقليم لخفض التوتّرات وضمان استقرار يسمح بالاستثمار على المدييْن المتوسط والطويل. فهل ينجح ماكرون هذه المرّة بالسير بالخيارات المناسبة له بعدما بات التفاهم السعودي-الإيراني استراتيجي بالنسبة إلى البلديْن وتفاهمها كلّ على حدة مع واشنطن أولوية عندهما؟
يحب اللبنانيون فرنسا لكنهم يخشون من تقلّبات المواقف عند إدارتها، وتلك التقلّبات لم تراع قط مصالحهم وحاضرهم ومستقبلهم، وتالياً مصالح فرنسا على المدييْن المتوسط والطويل. يستحق لبنان بعد هذه الحرب المتوحشة، أن يستعيد عافيته، وعلاقاته العربية أولاً، ثم علاقاته مع أصدقائه الكثيرين في العالم ثانياً، كما يستحق أن يعيد صياغة دور له في هذه البقعة الجغرافية من العالم. يحتاج لبنان إلى تغيير إيجابي وليس لاستكانة واستعادة للتجارب المؤلمة على مستوى الحكم والانقسام. على وقع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ وما يستتبعه من وعود ستطال السياسة الداخلية اللبنانية، سيحمل القادم من الأيام الكثير من الاحداث والمفاجآت على مستوى الاستحقاقات.