منير الربيع – المدن
ليس لبنان الذي كان. التراجيديا تقول إنه يعيش الأيام الأخيرة لنموذجه. كان تفجير المرفأ الضربة القاضية التي قضت على ما تبقى من قطاع صحي، وتربوي، وسياحي، وكل ما له علاقة بالتجارة والترانزيت. وإذا كان ذلك التفجير هو الشرارة الأساسية لاستقالة الحكومة، والدخول في داومة سياسية تشبه الدوامة التي أدخلت القوى السياسية التحقيق العدلي فيها، منذ الوعد الشهير بإنجازه وإعلانه خلال خمسة أيام. فهو نفسه الانفجار عمل على فضح المسار الإنحداري للمجريات السياسية في البلد. وهي نتاج لسياسة متعمّدة كما يتضح يوماً بعد يوم من خلال تلاعب الجميع بالاستحقاقات الدستورية التي تتعلق بعملية تشكيل الحكومة، واختراع كل المعوقات لمنع تشكيلها. وكما تم تمييع التحقيق، يتم تمييع وتسخيف أي حراك حقيقي لإنتاج حكومة.
تعطيل الاستحقاقات الدستورية
قد يكون ذلك مرتبطاً بطموحات الكثيرين في القضاء على الصيغة القائمة، والبحث عن صيغة جديدة. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، فالتعطيل مبرر، ولكن خلاصته أسوأ مما يعتقد البعض. لكن الأكيد أن عدم تشكيل الحكومة، سيعني تلقائياً عدم ضمان إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها. وهذه ستقود رئيس الجمهورية إلى الاعتقاد بأنه لا يمكنه تسليم ولايته لمجلس نيابي فاقد الشرعية وممدداً لنفسه. ما يعني أنه سيبقى في قصر بعبدا ولن يغادره. وذلك سيضع الواقع السياسي برمته في لبنان على حدّ البحث عن تسوية، تتعلق بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، أو وضع لبنان أمام احتمال الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي جديد، أو عقد اتفاق جديد يتم تعديل الدستور بموجبه، وإدخال تعديلات جوهرية على النظام.
نظريات وأوهام
مع ذلك، حتى نظرية وجود رعاية دولية لمؤتمر مخصص لبحث الأزمة اللبنانية، انطلاقاً من مبادرة تهدف إلى إعادة صياغة النظام، لا تبدو جدية. وبالحد الأدنى، لا تبدو قريبة ولا فكرة ناضجة حولها. عصر المبادرات الإقليمية والدولية تجاه لبنان ولّى. وعليه فإن لبنان يتجه إلى الفوضى. لا يمكن توقع عقد مؤتمر لرصد الأموال الوفيرة للبلد. سيسير لبنان وفق مندرجات السيناريو السوري. ولكن من دون مواجهات ومعارك عسكرية، إنما العمل سيكون بالتقسيط وعلى القطعة، وفق نموذج ما بعد توقف المعارك العسكرية الكبيرة في سوريا.
يتركز الوهم الأكبر لدى بعض الرأي العام المسيحي، والذي يعتبر أن الانهيار سيكون مدخلاً للحل الشامل، إما من خلال إعادة صياغة النظام، أو من خلال اكتمال عوامل الأمر الواقع أو الاقتناع بالفيدرالية، والتي -حسب ظنهم- ستلقى دعماً دولياً وفاتيكانياً. هذه كلها توهمات غير واقعية على الإطلاق. بما في ذلك الرهان على حرب إسرائيلية كبرى على حزب الله تفتح الطريق أمام هذه الفيدرالية. المبادرة الفرنسية أيضاً عانقت الوهم إلى حدّ الغرق فيه، فلم تنجح ولم تصل إلى أي نتيجة، بل تحولت إلى حسابات فرنسية داخلية، والتي ستتعمق أكثر في الفترة المقبلة مع اقتراب موعد الانتخابات هناك.
“واقعية” حزب الله
في المقابل، يبدو حزب الله الطرف الأكثر واقعية، والذي لم يعد يتوهم كبر الحجم والدور، كما كان عليه الوضع إبان دخوله إلى سوريا. لذلك، هو يحاول تجنّب أي مؤشر من مؤشرات زيادة منسوب الصراع السياسي القابل للانعكاس على الأرض، والذي قد يعيد تفجير الفتنة السنية الشيعية. فهذه لا يريدها حزب الله، ويبحث عن كل فرص وأدها في مهدها، ومنع تسرّبها. وأبرز الدلائل على ذلك أسلوب تعاطيه مع حادثة خلدة الخطيرة.
بناء على هذه النظرة، هناك من يعتبر أن الحزب لن يدع ميقاتي يعتذر. وقد يتدخل لدى رئيس الجمهورية لإقناعه بضرورة تشكيل حكومة وتسهيل مهمة ميقاتي، لأن الحزب بحاجة ماسة إلى حكومة تلملم الوضع المتدهور في هذه المرحلة. خصوصاً أن الانهيار لا يتحمله والفوضى قد لا تناسبه.
إلا أن هناك وجهة نظر أخرى، تقول إن الحزب سمّى ميقاتي ليظهر وكأنه مسهل. ولكنه أوصل رسالة للجميع مفادها عدم مطالبته بالضغط على عون. وهو لن يفعل ذلك في هذه الظروف التي يعتبر نفسه فيها مستهدف من الداخل والخارج.. وعلى إيقاع أحداث خلدة، لن يضغط على عون ولن يسهم في كسره.