شعار ناشطون

اللِّد”…خيال فلسطيني ضد سرديات المحو

18/10/24 04:18 pm

<span dir="ltr">18/10/24 04:18 pm</span>

 

في خضم إسكات كل ما هو فلسطيني داخل الأراضي المحتلة، منعت شرطة الاحتلال قبل أيام عرض فيلم “اللِدّ” بمسرح السرايا في يافا، فيما اعتبره وزير الداخلية الإسرائيلي إيتمار بن غفير، “فيلماً يحرّض على الجنود في دولة اليهود”. الفيلم من إخراج رامي يونس وسارة إيما فريدلاند، وشاركهما التأليف إياس سلمان، مع مشاركة روجر ووترز عضو فرقة بينك فلويد الشهيرة كمنتج منفذ للفيلم.

 

للقدس أفلامها، وجنين، وغزة، والخليل، وخان يونس… مُدن فلسطينية تسكن أفلاماً تروي قصصها وحكايات أهلها، أصلهم وفصلهم، ماضيهم ومآلهم، أحلامهم وأوجاعهم. هناك مدن أخرى نادراً ما أتت السينما على ذكرهما، مثل اللدّ. يروي الفيلم قصة مدينة اللد، التي كانت في يوم من الأيام عاصمة لفلسطين القديمة ورابطاً بينها وبين العالم بأسره. يُجسّد الفيلم، المدينة كفتاة تتحدث عن نفسها، تاريخها، وماضيها، معبرةً عن مشاعرها وتجاربها بصوت الفنانة ميساء عبدالهادي، في صورة تعكس آلام التهجير والحروب والمآسي.

 

يروي رامي يونس لـ”المدن” أصول فيلمه: “في العام 2015، قرّرنا (مع المخرجة المشاركة سارة إيما فريدلاند) التعمّق في ما تعرضت له اللدّ عقب احتلالها. اختيار المدينة تحديداً جاء لاختلاف تجربتها عن سائر تجارب المدن الفلسطينية الأخرى التي تعرّضت للتطهير العرقي، إذ دُمّرت المدينة بشكل شبه كامل. أيضاً، لم نجد الكثير من الأفلام التي تسلّط الضوء على حياة المدن الفلسطينية قبل التهجير وبعده، لذلك تقرّر أن تكون اللدّ محوراً للفيلم، لتكون ممثلة لفلسطين بأسرها”.

 

في “اللدّ”، نعرف أن للمدينة تاريخ يصعب تلخيصه. مدينة كنعانية من أكبر وأقدم مدن فلسطين التاريخية، لعبت على مدار التاريخ دوراً إستراتيجياً كملتقى للطرق الرئيسية في المنطقة. توالت على حكم المدينة دول وحضارات إلى أن سقطت في أيدي الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب 1948. أسّسها الكنعانيون في الألف الخامس قبل الميلاد، وذُكرت في العديد من المصادر التاريخية. بعدما حملت العديد من الأسماء وشهدت العديد من المعارك والاحتلالات، أصبحت مشهداً حضرياً متغيراً بشكل دائم تقريباً حيث لا تزال هناك العديد من ندوب الماضي.

 

ببساطة شديدة، كانت اللِدّ (بكسر اللام)، الواقعة على بعد حوالي 16 كيلومترا جنوب شرقي مدينة يافا، تابعة لفلسطين ذات يوم، لكنها الآن تسمى اللُدّ (بضمّ اللام) ومحتلة من إسرائيل. يخبرنا مؤرخ يتجوّل بين الأنقاض أن اللِدّ كانت تُعرف في الواقع باسم “العاصمة الأولى لفلسطين”، منذ العام 636 م. وبحلول تسعينيات القرن العشرين، أُطلق عليها اسم “عاصمة المخدرات في الشرق الأوسط”. لكن ما حدث في تلك الأثناء هو محور هذا الفيلم. ففي 1948، استولى الإسرائيليون على المدينة أثناء ما سمّوه بـ”عملية داني” وخروج الفلسطينيين من اللدّ والرملة، لكن العرب لديهم اسم مختلف لذلك الحدث: النكبة.

 

أنتج الفيلم تنفيذياً بواسطة روجر ووترز من فرقة بينك فلويد، وساهمت في إنجازه شركات إنتاج من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفلسطين، وربما يكون من الأفضل وصف “اللدّ” بأنه “فيلم خيال علمي تسجيلي”، لأنه يجمع بين حقائق واقعية للغاية وتسلسلات تشبه الأحلام تتخيّل واقعاً جديداً للمدينة. يبدأ الفيلم بسلسلة من اللقطات التي تُظهر مدينة اللدّ هادئة وادعة – أطفال يلعبون في زقاق، ورجل يعبر موقف سيارات على دراجة بخارية – يتغيّر عنوان الفيلم بسرعة من “لِدّ: مدينة فلسطين” إلى “لُدّ: مدينة إسرائيل”. وبينما يحدث هذا، يرحّب بنا تعليق صوتي ويدعونا للدخول في المدينة. هذا الصوت هو صوت اللدّ (تؤديه ميساء عبد الهادي)، المتميّز بحضور أنثوي دافئ ولطيف يشرح بهدوء أهمية النكبة.

 

يقول الصوت: “لن تصدّق الطريقة التي تصرّف بها الناس لمجرد أنهم أرادوني”. يشرح صوت اللدّ أن هذا الفيلم ينتقل بين عالمين: عالم حقيقي، التقطته الكاميرات من مقابلات، ولقطات لطائرات بلا طيار، ولقطات أرشيفية وصور فوتوغرافية؛ وعالم خيالي لم تحدث فيه النكبة أبداً: نسخة ملوّنة متحركة من المدينة حيث تختلف الأشياء كثيراً، باختصار، تُثري الحياة، والعرب/الفلسطينيون هم مَن يتمتعون بالامتياز. في سياق الفيلم، سنستمع إلى ناجين من النكبة، وأطفالهم، وأحفادهم، بالإضافة إلى معلّمين وناشطين شباب. ونسمع أيضاً من رئيس بلدية اللدّ الحالي – الذي يصرّ على أن المدينة عبارة عن بوتقة مزدهرة للثقافات – ومن الجنود الإسرائيليين السابقين الذين قاتلوا في حرب 1948.

أول المتحدثين الذين نسمعهم عجوز فلسطيني ناجٍ من النكبة، ما زال يتذكر كل التفاصيل المؤلمة للرعب الذي عاشه أثناء انتظاره انتهاء العنف مع عائلته. ينحو تأطير وإعداد المَشاهد نحو شحن تجربة الفرجة بالأهوال، لكنها حيوية إذا كان الهدف اكتساب فهم أكبر لتاريخ المأساة الفلسطينية. ثم يقدم لنا صوت اللدّ تاريخاً بديلاً: ماذا لو لم يبدأ الصراع أبداً، وظلّت اللدّ “المدينة التي تربط فلسطين بالعالم”؟ وليس هذا فحسب، بل ماذا لو لم تُستعمَر فلسطين أصلاً بعد الحرب العالمية الأولى، وتمكّن الناس من محاربة الإمبراطورية البريطانية القادمة؟

 

نرى هذا التاريخ البديل يلعب دوراً في تسلسلات رسوم متحركة مشرقة، مع نسخ كرتونية من الموضوعات والشخصيات المختارة للحديث أمام الكاميرا (كما في الأفلام الوثائقية التقليدية). هذه الرسوم الكرتونية مطمئنة ومريحة، تعيش بحرية لتفعل ما يحلو لها في نسختها عن مدينة اللدّ. لكن، حتى هذه الرسوم الكرتونية السعيدة، لا تستطيع الهروب من الواقع، فهي تتسلل من خلال الشقوق في البنايات، وفي الانعكاسات على زجاج الحافلات، مطالبةً بالاهتمام الكامل. بعبارة أخرى، لا يمكن، حتى في أشدّ الأحلام تفاؤلاً، تجاهل مدينة اللدّ الحقيقية.

 

في النصف الأول من الفيلم، اختار المخرجون وضع قصة اللدّ في سياقها باستخدام أشرطة أرشيفية، حيث يروي جنود البالماخ (القوة المتحركة الضاربة التابعة لعصابات الهاغاناه، الجيش غير الرسمي للمستوطنات اليهودية أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين) جانبهم من قصة النكبة. وبكلماتهم الخاصة، يصف جنود البالماخ استهداف مسجد داخل مدينة اللدّ وفتح النار على المصلّين في الداخل (زعموا أن العديد منهم كانوا رجالاً مسلحين). أما النبرة التي يستخدمونها للتعبير عن “بطولاتهم”، فتفضح الانفصال التامّ عن حقيقة الأحداث. من دون أي تدخّل تعليقي من جانب “صوت اللدّ”، مكتفياً بتقديم هذه الشهادات المجرمة بشكل مباشر، فإن تأثير هذه الأشرطة صادم للغاية. عندما نعود إلى الوقت الحاضر، يشرح صوت اللد أن المدينة يشار إليها الآن بشكل شائع من قبل الإسرائيليين باسم اللُدّ، وأن الساحة الرئيسية في المدينة تسمى ساحة بالماخ، على اسم هذه العصابات الإرهابية.

 

ومن بين المفاجآت العديدة التي تضمّنها الفيلم، نعلم أن فلسطينيي مدينة اللدّ تربطهم صلة كبيرة بالقديس جورج، ويرون انتصاره على التنين الأسطوري كاستعارة للتغلّب على الاستعمار. ويعتقد البعض أن والدته جاءت من فلسطين، وأن جثته مدفونة تحت المدينة. لذا، في التسلسل الكرتوني الذي يتلو أشرطة العام 1989، هناك تمثال برونزي ضخم مخصص للقديس جورج شُيّد في ساحة المدينة، والتي لم تعد تحمل اسم بلماخ، حيث يتجمّع السياح والسكّان حوله بينما يروي كبار السنّ القصصَ.

 

يبدأ الفصل الثاني في مخيم لاجئين، حيث يعيش ويعمل الآن عدد من الفلسطينيين. ويواجه الناجون من النكبة هنا ــ مثل الجدّة التي تحكي تاريخها بينما تعلّم أحفادها تقشير الباذنجان وتقطيعه ــ مهمة هائلة تتمثّل في تذكّر وسرد الأهوال التي عاشوها في العام 1948، بينما يعيشون في الوقت نفسه في حالة من الغموض؛ غير قادرين على العودة إلى وطنهم الأول. يندب “صوت اللدّ” حقيقة أن العديد من الفلسطينيين المُهجّرين والمنفيين بعد النكبة، بما في ذلك تلك الجدة، ينظرون إلى مدينتهم باعتبارها مكاناً مثالياً لم يعد موجوداً. تشرح أنهم يرمنسونها، ويرفضون قبول حقيقة أن ما خبروه عن اللدّ قد اختفى. وفي الوقت نفسه، في اللدّ البديلة، يمكن لطفلين من مخيم اللاجئين التجول بحرية وحضور محاضرة في “قاعة حنة أرندت” في جامعة كبيرة، ثم ركوب الحافلة إلى المنزل أثناء مناقشة خططهما لمهرجان عيد اللدّ، وهو عيد مسيحي عربي لا يواجه أي تهديد بالحظر.

 

عندما نعود إلى الواقع، نرى فصلاً دراسياً حديثاً في اللدّ، وجمعاً من الأطفال في سنّ المدرسة الابتدائية يدرسون في غرفة ضيقة ومظلمة مع طاولة واحدة ومعلمة واحدة تكافح بموارد ضئيلة. يتعلّمون عن الهوية، وبينما يسارع العديد من الأطفال إلى تعريف أنفسهم كفلسطينيين، لا يستطيع واحد منهم تحديد مكان فلسطين في الخريطة. تنتهي المعلمة من الدرس بالبكاء، وتتساءل بصوت عالٍ عما إذا كانت هذه هي الطريقة التي “تختفي بها من وجه الأرض” بعد عشر سنوات. في تسلسلٍ مذهل من المؤثرات البصرية، نرى المباني والهياكل الفلسطينية المدمرة “تولد من جديد”، تتحوّل انتصارات معمارية حديثة. في هذه النسخة من الواقع، يمكن للمعلمة التي التقيناها من قبل، أن تدرّس في فصلٍ حيث لكل طالب مكتب وأقلام وورقة وما إلى ذلك، ويمكنها كتابة دروسها على اللوح الكبير خلفها. أشياء تبدو بسيطة، لكنها كبيرة وفارقة، بالمعني الفلسطيني

تابعنا عبر