في سعيه المتواصل للتأريخ للقاهرة بأكثر من شكل، وعبر أكثر من زاوية، أنجز نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط في جامعة كاليفورنيا، مؤخراًً، كتاباً جديداً بعنوان “القاهرة مؤرخة”. صدر الكتاب في جزئين، يتناول الأول تاريخ المدينة منذ دخول الإسلام وحتى بداية القرن العشرين، وفي الثاني يطرح تصورات أدباء وشعراء وفنانين ومصورين ورحالة زاروا المدينة وعاصروها وعاشوا فيها من القرن الثامن عشر وحتى العصر الحالي. يستعين الصياد بمؤرخين وجغرافيين وأثريين وصحافيين ومهندسين معماريين، بينما يهندس هو الإطار العام لدراساتهم، ليسرد عبر فصول الكتاب مجتمعة ملامح شبه مسلسلة من تاريخ القاهرة في حقب متعددة قد لا تتساوى في الطول لكنها تتساوى في الأهمية، مع ربط كل حقبة بالسابقة واللاحقة عليها.
وكعادة كتب الصياد، تصعب الإحاطة بكل فصولها في قراءة واحدة موجزة، لذا سأركز هنا على ملمح واحد هو التأريخ للمدينة السابق لحملة نابليون (1798-1801م) وكتابها المهم “وصف مصر”. فمن هذه الموسوعة الضخمة وباكتشاف الحملة الفرنسية لحجر رشيد وفك رموزه بعدها، وُضعت أساسات علم المصريات الحديث، وبدأ التأريخ الفعلي لمصر على أساس علمي للمرة الأولى، من خلال الاستعانة بالنصوص في فهم وتفسير الآثار المادية. إلا أن الدراسات التفصيلية في كتاب الصياد تؤكد أن علماء الحملة لم يبدأوا من الصفر على نحو ما يتردّد غالباً في كثير من الدراسات التاريخية، وإنما بنوا معرفتهم الفعلية بمصر عبر تراكم المعلومات التي وردت من كتابات في عصور سابقة.
العِلم الاستعماري
تعد موسوعة “وصف مصر”، كما يراها عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا في جامعة القاهرة، سجلاً لحالة البيئة والإنسان في القاهرة خلال نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، حيث لم يصدر عمل مماثل لنحو تسعة عقود تالية، حتى قام على باشا مبارك بإعداد موسوعة “الخطط التوفيقية” استجابة للتغييرات التي شهدتها المدينة وفق المخطط الجديد للخديوي إسماعيل الذي كان يطمح لجعل المدينة قطعة من باريس. يؤكد معتمد في بحثه على أن الحملة لا تبدأ التأريخ للمدينة من جذور منف، ولا مصر عتيقة، مع دخول العرب وتأسيس الفسطاط، فالقاهرة التي تؤرخ لها الحملة، هي قاهرة الفاطميين وما ضمته من عمائر سابقة في عهود الطولونيين والإخشيديين: “عدت موسوعة وصف مصر تاريخ تأسيس القاهرة في عام 970م النقطة المرجعية. كما عدت تأسيس صلاح الدين الأيوبي لقلعته في 1166 النقطة المفصلية في توجيه جغرافية القاهرة”. لكن الفكرة المهمة التي يركز عليها هي أن الحملة تمكنت من ترسيخ ما سماه “العلم الاستعماري” أو الاستعمار القائم على العلم: “كانت الحملة فتحا ًجديداً في عالم الاستعمار المنظم، فكلما زادت المعلومات التي يجمعها المستعمر عن البلاد زادت قدرته على إحكام قبضته عليها”. المدهش، كما يقول، أن علماء الحملة، بعدما أتموا موسوعتهم الضخمة، قالوا إنهم يتمنون أن تكون لديهم موسوعة بالحجم والقدر نفسه عن بلدهم فرنسا نفسها، إذ لم تكن هناك وقتها موسوعة ضخمة تحمل كل تلك المعلومات عن البلد المستعمِر ذاته!
ورغم ذلك فقد اعتبر معتمد أن المعلومات التي جمعها الفرنسيون عن مصر خلال فترة وجودهم، هي مجرد “طبقة حديثة من البيانات الطازجة اكتسبت أهميتها من الخبرة المباشرة”، في حين كان الأبطال الحقيقيون كتّاب آخرون، استعانت الحملة بما أنجزوه من مراجع سابقة. لذا يقول إن تمثيل القاهرة في الموسوعة لم يكن متسقاً فقط مع مشاهدات علماء الحملة، بل جاء في الحقيقة استكمالاً لتراث جغرافي عريق باللغات كافة، سواء من كتب الرحالة أو تقارير المسافرين الأوروبيين قبل الحملة. وليس هذا فقط، بل ما كتبه مؤرخون مصريون أيضاً، وفي مقدمتهم تقي الدين المقريزي في “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”، وأيضاً “بدائع الزهور في وقائع الدهور” لابن إياس، و”الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر” لعبد اللطيف البغدادي الذي وضع مؤلفه قبل وصول الحملة الفرنسية بنحو 600 سنة.
جغرافيا مقدسة
في بحثها عن أقدم الصور المرسومة للعمارة الإسلامية في القاهرة، تؤكد دوريس أبو سيف، أستاذة تاريخ الفنون والآثار الإسلامية بجامعة لندن، أن الحج والتجارة كانا من أهم العوامل التي جذبت الأوروبيين إلى مصر. تقول إن الحج إلى الأراضي المقدسة كان مناسبة للقاء سلمي بين أوروبا والعالم العربي، حيث جاء المسافرون قبل العصر الحديث بحثاً عن الآثار القديمة والمواقع المذكورة في الكتاب المقدس، “وكان مرروهم عبر القاهرة تجربة مثيرة استحوذت بشدة على اهتمام الكثيرين”. ورغم ذلك، تشير إلى أن القاهرة نفسها لم تكن موضوعاً لـ”الجغرافيا المقدسة” على الرغم من أن بها الأهرامات التي كانت تفسر في ذلك الزمن القديم على أنها مخازن الحبوب الخاصة بالنبي يوسف، وحديقة المطرية المعروفة باسم ملجأ العائلة المقدسة، بالإضافة إلى كنائس القاهرة القديمة. وتفسر أبو سيف، غياب الاهتمام بعمارة المساجد، إلى سياسة منع الأجانب من دخول المساجد التي كانت سائدة في القرن الخامس عشر، حيث سمح لهم فقط بزيارة القلعة وقصور السلطان.
تمهيد الطريق
تشير أبو سيف لمجموعة كبيرة من كتب الرحالة التي سبقت كتاب الحملة الفرنسية، وأرّخت لمصر عبر الصور، ومهدت الطريق لكتاب نابليون “وصف مصر”، منها رواية الحج التي أعدّها رجل الدين والسياسي الألماني برنارد فون بريدينباخ العام 1483، وإن تركّزت في معظمها حول القدس، لكنها تضمّنت أيضاً رسوماً للأماكن المقدسة في مصر وشخصيات تمثل فئات اجتماعية مميزة. كما تشير لما كتبه رجل الدين الأيرلندي سيمون سيمونيس العام 1323، عن فخامة القاهرة وعظمة قلعتها، ووصفه النادر لمضمار الخيل المزود بمقصورة حيث يمكن لسيدات البلاط مشاهدة الاستعراضات التي كان السلطان الناصر محمد يؤديها أمام المتفرجين، وما كتبه جيمس أوف فيرونا في الفترة نفسها تقريباً عن مقابر القاهرة بأضرحتها المذهبة والمطلية والمزينة ببذخ بالرخام النفيس، وإشادة الارستقراطي الفرنسي أوجييه دي أنجلور في 1395 في عهد السلطان برقوق بالقاهرة وقلعتها ومساجدها وحماماتها. وفي الإطار نفسه، حللت أبوسيف ما كتبه ورسمه: ماتيو باغانو، وبيلغرينو بروكاردي، كورنيليوس دى بروين، بنوا دي ماييه، ريتشارد بوكوك، لويس فرانسوا كاساس. وأشارت إشارات تفصيلية لما رسمه الجيل التالي من المستكشفين، إذ كانت مصر جزءاً أساسياً من جولات الاستكشاف منذ القرن السابع عشر والتي كانت تتم تحت رعاية الأمراء والأكاديميين وشملت مقاطعات الإمبراطورية العثمانية وما وراءها، بهدف توثيق الآثار والتراث الكلاسيكي إلى جانب الجغرافيا والتاريخ الطبيعي. ولاحظت أن مناطق الجذب الرئيسة وأقدم الموضوعات وأكثرها شيوعاً في رسوم كتب الرحالة، كانت المباني الهيدروليكية المتعلقة بنهر النيل، مثل مقياس النيل في جزيرة الروضة، والقناة الكبيرة للناصر محمد وبئر صلاح الدين في القلعة.
وصف مصر الأصلي
من إشارة عابرة في دراسة دوريس أبو سيف، عن بنوا دي ماييه، العالم والقنصل الفرنسي في مصر خلال الأعوام 1692-1708، قالت إنه صاحب أقدم رواية عن مصر وضع فيها خبرته الأكاديمية ومعرفته بالمصادر العربية ليقدم معلومات قيمة عن القاهرة وهندستها المعمارية وثقافتها المادية. ونطالع فصلاً كاملاً، أعدته رضوى زكي، الباحثة المتخصصة في الحضارة والآثار الإسلامية، عن مذكرات دى ماييه، بوصفها دراسة متكاملة عن مصر، وفي القلب منها دراسة مهمة عن أوضاع مدينة القاهرة في مطلع القرن الثامن عشر، معتبرة دي ماييه الوحيد الذي استشعر جماليات الفن العربي والعمارة الإسلامية من الأوروبيين قبل حملة بونابارت على مصر، وأنه جدير بأن يكون أهم قناصل فرنسا الوافدين إليها.
وإن أشارت دراسات “القاهرة مؤرخة” لإفادة موسوعة “وصف مصر” من كتابات الرحالة السابقة على الحملة الفرنسية، فإن دراسة رضوى زكي تؤكد أن كتاب دي ماييه يأتي على رأس هذه المراجع، ويكفي أنه يحمل الاسم نفسه: “كان لأهمية هذه الدراسة أن علماء الحملة الفرنسية اقتبسوا تسمية موسوعتهم الهائلة عن مصر وفكرتها، عن دراسة دى ماييه التي ألقى فيها الضوء من كثب على أحوال مصر المعمارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية”. صدر كتاب دي ماييه “وصف مصر” العام 1735 في باريس، وسرعان ما نفدت طبعته الأولى في أقل من عام. ثم صدرت طبعتان أخريان، مع تعليقات ودراسات وصفية متعلقة بجغرافية مصر القديمة والحديثة، ومزاراتها ومعالمها البارزة، وعاداتها وتقاليد سكانها القديمة والمعاصرة، ووقائع من حياتهم الاجتماعية، وحكومة البلاد المصرية وإدارتها، وتجارتها ومحاصيلها، وهو النمط نفسه الذي سار عليه علماء الحملة في كتابهم بعد ذلك.
قيود من ذهب
في تحليلها لكتابات القنصل الفرنسي، وجدت الباحثة أنه بلور رؤية محدّدة في وصف وتصوير ملامح الحياة والعمارة في المدينة، وهي رؤية مختلفة عن كتابات الرحالة والمستشرقين السابقين التي اكتفت على الأغلب بالوصف الخارجي أو الحكايات الغريبة والخرافية. ومن هنا تبرز أهمية الكتاب، “فقد حاك بين سطور رسالته عن القاهرة العلاقة بين أهلها ومنشآت مدينتهم من جانب، وبين عادات وتقاليد المصريين الشرقية بين جنبات تلك المدينة من جانب آخر”، مشيرة إلى ملاحظاته الدقيقة للحياة داخل المدينة. فيكتب مثلاً عن أكثر من مؤذن في المسجد الواحد وتداخل أصوات المؤذنين إلى درجة عدم قدرته على تحديد كلمات الآذان رغم معرفته بالعربية، وعادة ارتياد الحمّامات العامة، خصوصاَ من قبل السيدات، معتبراً أنها في بعض الأحيان تكون مجرد ذريعة لخروجهن من المنازل ومقابلة صديقاتهن من السيدات بعيدا من رقابة الأزواج. بشكل عام، اهتم دي ماييه بتسجيل أحوال المرأة المصرية وخاصة نساء المماليك، وقارن وضعها بوضع المرأة الفرنسية ورأى أنها بالمجمل في وضع أقل من نساء مماليك مصر. وكانت له في الوقت نفسه مآخذ على المجتمع المصري الذي يجبر السيدات على الزواج، بخلاف وضع المرأة في فرنسا التي كان لها حق اختيار زوجها، وإن أثارت إعجابه في الوقت نفسه غيرة الرجل الشرقي على نسائه وحرصه على الفضيلة مقارنة بأهل أوروبا. وتداخلت عليه بعض الأمور الخاصة بعادات الزواج، فلم يفهم مثلاً معنى تقديم المهر أو المصوغات الذهبية للعروس: “ظنّ أن الرجل يدفع مبلغاً من المال لشراء زوجته بشرائه للأساور كدليل العبودية فهي في نظره قيود من الذهب أو الفضة”.
(*) صدر كتاب “القاهرة مؤرخة” عن دار العين. وحمل الجزء الأول عنوان “فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبر الزمن”، في حين حمل الجزء الثاني عنوان “مشاهد من ثقافة وتمثيل المدينة عبر الزمن”.