شعار ناشطون

“السينما المؤجلة”…محمد سويد يؤرّخ لأفلام الحرب الأهلية اللبنانية

28/01/25 08:39 pm

<span dir="ltr">28/01/25 08:39 pm</span>

بعد 39 عامًا على صدوره عن “مؤسسة الأبحاث العربيّة” في بيروت، صدرت الطبعة الثانية من كتابي الأول “السينما المؤجلة – أفلام الحرب الأهلية اللبنانية”، عن “نادي لكل الناس” بالتعاون مع منظمة “يونيسكو” و”بيريت”، حسبما كتب السينمائي والناقد اللبناني محمد سويد، في صفحته الفايسبوكية، مضيفاً: في ما يأتي مقدمة الطبعة الجديدة مصحوبة بالشكر والامتنان لكل من آزرني في نشر هذا الكتاب ماضيًا وحاضرًا.

 

حين اقترح “نادي لكل الناس” إصدار طبعة جديدة من “السينما المؤجلة – أفلام الحرب الأهلية اللبنانية”، قبلت. بمتابعة دؤوبة ومشكورة من ليانا قصير ونجا الأشقر، انطلق العمل، وأحبُّ ما فيه أنه ذكّرني بتقاليد إعداد الكتب في ثمانينات القرن الماضي والعقود السابقة على دخول الكومبيوتر وتأثيراته المباشرة في مسارات الكتابة والطباعة والنشر، ما لبث الإنترنت أن طوّعها وشتتها بخوارزمياته في وسائل أطاحت تقاليد القراءة والمراحل الواجب اجتيازها تمهيداً لاستحقاق مؤلفه امتياز إخراجه إلى العلن بمكافآت متدرجة، بدءاً من موافقة دار النشر ولجنة القراءة المكلفّة من طرفها على مشروعه، وانتهاء بمراجعة الطبعة الزرقاء.

 

شُرِعَ في تنفيذ الطبعة الثانية وسئلت ما إذا كان لدي نسخة من المخطوطة الأصليّة. استغرقني الأمر بضع دقائق قبل إجابة السائل أني استعملت الورقة والقلم في كتابتها. ما كان في المستطاع إلا اعتماد الطريقة القديمة في تنضيد الكتب. دُوِّنَ النص وصُفّت أحرفه نقلاً عن إحدى النسخ القليلة المتوافرة منه. غمرني شوق جارف وملتبس ببهجة بث الروح في نصّ نَفِدَت طبعته الأولى. داريت الشوق بالفصل بين الكتاب وزمنه ومرارة الرجوع إلى حرب أعطت السينما علّة وجودها وكانت واسطة عقدها معنا، لعنتها أننا وإيّاها سيّان، تفتقدنا في حياتنا ونتفقدها في أفلامنا. كأنها انتهت مشروطة بتواصل إحيائها على الشاشة. بقيت عزيزةً على قلوب المخرجين اللبنانيين وأكاد أقول “مُكرّمة” الذكر في أعمالهم بغض الطرف عن كونها جاثوم محننا وآلامنا. ليس مقنعاً تماماً أن استرجاعها ألزمه فهم الحروب التي أعقبتها وتكاثر ذُرّها من نسلها، مثلما كانت الحرب الأهليّة الأميركيّة مطهر تحرر السود من العبوديّة واضطهادهم لاحقاً بالتفرقة العنصرية.بعضٌ من سرّ حرب ربيع 1975 كامن في بلوغها ضفة المادة الأرشيفيّة، بما تأتى من صورها المتحركة عن معارك ومقاتلين وخراب وضحايا وناجين. وفي سرّها أيضاً جزء مستور من تفاعل الرائي مع الصور وتحديد مسافتها منه. مع الوقت، يرحل البشر، يخلفهم آخرون ويُترك للرائي إعادة تكوين صورهم واستردادها إلى ذاكرته بعدما اعتاد ربط أزمنتها وأمكنتها وأناسها وعناوينها بالحرب واختزالها باسمها وحسب. العنوان: حرب السنتين، الاجتياح الإسرائيلي، حرب الجبل، حرب المخيمات، حربا التحرير والإلغاء. الزمان: 1975-1977، 1982، 1983، 1986، 1987، أو 1987-1975 بالتعميم. والمكان: خطوط التماس، بيروت الشرقية، بيروت الغربية، زحلة، الجبل، الجنوب، طرابلس، الضاحية الجنوبية، إلى آخره.

 

في صور الحرب إشارات تتيح التحقّق من وقائعها، شواهدها، أخبارها، وتاريخها المندثر. ليست الصور في منجى من الاهتراء والاضمحلال. بيد أنها تظلّ آسرة في إثارة الحواس وتحريك المشاعر، تتلقاها العين متجاوزة تأرجحها بين البهتان وتلف أصلها السالب وتحلل ألوانها الطبيعيّة واحتفاظ تفصيل منها بنضارته. بجودتها ورداءتها، يعطيها الزمن خصائص المؤثرات البصرية والعاطفية والنفسيّة. ربّما سرّ الافتتان بحرب الثالث عشر من نيسان 1975، مردّه إتمام صورها سنّ رشدها الأرشيفي. مقاتلوها، بملابسهم، بأسلحتهم، بوجوههم، بلحاهم وبرؤوسهم المنفشة، أبعد من التشبيه بمقاتلي الحروب الأهليّة المعاصرة. في صورهم أزياء وتسريحات شعر وعمارات وسيارات وإعلانات شوارع أوثق صلة بسبعينات القرن العشرين. على قسوتها، تسخو كل حرب وتفوح برومانسيّة عصرها. تنحو بشخصياتها نحو الميلودراما العاطفية، تأخذهم إلى نهايات قدرية لا تعرف المغفرة. تترك من ذكراها أسفاً على من ماتوا قهراً وجُهّلت مصائرهم. الحرب جرح مفتوح. وحرب 1975 جرح يستطيب النكأ استطابة اللبنانيين استذكارها سنوياً بالمثل السائر “تنذكر وما تنعاد”. لا شيء نازع احتلالها الوعيين الفردي والجماعي غير انفجار الرابع من آب 2020. ثبّت نفسه جرحاً محفوراً في الذاكرة منذ وقوعه والتقاطه بعدسات الهواتف الخلوية. تدفق سيل اللقطات من زوايا متفرقّة سجلت مشهداً وحيداً للواقعة: الانفجار وتبعاته. في عالم الصورة، تؤرخ النكبات الإنسانية العظمى بلقطة يتيمة أُخذت لحظة حصولها. كلما استعادت السينما ووسائل الإعلام المرئي إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما في 6 آب/أغسطس 1945 واستهداف الولايات المتحدة بهجمات انتحارية في 11 أيلول/سبتمبر 2001، تكرر استخدام لقطتي الغيمة الفطريّة واختراق الطائرتين الانتحاريتين برجي التجارة العالمية في نيويورك. على غرارهما، ترسّخ انفجار العنبر 12 في مرفأ بيروت بسحابته الفطريّة. بين الكارثتين اليابانيّة والأميركيّة، بدا أقرب إلى الأولى في استحضاره سحابة هيروشيما والتذكير بوقوع الفاجعتين اليابانيّة واللبنانيّة في الشهر نفسه، آب/أغسطس، ولو بفاصل ثلاثة أرباع القرن.بلقطته الشهيرة، أحرز انفجار بيروت تأريخه بوقت أقل من حرب أهليّة دامت سبعة عشر عاماً. بلغ سن رشده الأرشيفي من تلقاء نفسه، كأنه ولد، ومن فوره، أرشيفاً لواقعته. انفجار المرفأ أشبه بفيلم – لقطة. ما أعوز الحرب الأهليّة اللبنانيّة إلى لقطة تختصرها من النظر إليها مرّة واحدة فحسب. مهما يكن، نمّ الاسترسال في تصويرها على مداها، عن امتلاكها مخزوناً هائلاً من صور ومشاهد وحكايات وتسجيلات قابلة لتوليفها في أفلام جمّة ووفق سيناريوهات مختلفة. أن تصبح الحرب مادة أرشيفيّة، يعني، في مقاربة أخرى، أنها أمست ألبوم صور قاسية، مثيرة للشفقة، محيّرة، مطروحة للمراجعة والبحث والتأمل. بالمنطق نفسه، وبشيء من التعارض، يعني نشر “السينما المؤجلة” مجدّداً إخراج طبعته الأولى من أرشيفها وتظهيرها من جديد. من عملي ناقداً سينمائياً وصحافياً متابعاً لإنتاج الأفلام اللبنانية، ومساعد مخرج في البعض منها، وجدت نفسي كاتباً عن مرحلة عشتها على مدار الساعة. كنت في قلبها وليس على مسافة زمنية منها. فرغت من الكتابة عملياً مع لفظ سينما الحرب أنفاسها الأخيرة وتوقف عجلة إنتاجها، عام 1986.بعد أشهر من الاجتياح الإسرائيلي، راح نشاط السينمائيين يترنح تدريجاً على وقع الانهيارات المتتالية. في 3 أيلول/سبتمبر 1983، نشبت حرب الجبل بين “الحزب التقدمي الاشتراكي” و”القوّات اللبنانيّة” ونتج من قتالهما المرير مجازر مروعة وخريطة ديموغرافيّة عكست التهجير الواسع للقرى المسيحيّة، متبوعاً بتحالف درزي – شيعي نشأ من انتفاضة الحزب الاشتراكي و”حركة أمل” على عهد الرئيس أمين الجميّل في 6 شباط/فبراير 1984، مثقلاً بيروت بأهواله الأمنية وتنازع طرفيه على السلطة، غداة سيطرتهما على العاصمة وضاحيتها الجنوبية. وإزاء العجز عن انتخاب رئيس جمهورية خلفاً لأمين الجميل، ختم الأخير ولايته مخفقاً في إقناع شخصيّة مدنيّة بتأليف حكومة انتقاليّة، وقرّر، في 22 أيلول/سبتمبر 1988، إيعاز المهمة إلى قائد الجيش. شكّل العماد ميشال عون حكومة عسكريّة سداسيّة سرعان ما انسحب منها الضباط المسلمون الثلاثة، العميد السني محمد نبيل قريطم والعقيد الشيعي لطفي جابر واللواء الدرزي محمود طي أبو ضرغم، وأسفر خروجهم عن الإخلال بتوازنها الطائفي وخفض مستواها إلى مجلس مصغر بعضويّة ضابطين مسيحيين، العميد الكاثوليكي إدغار معلوف العقيد الأرثوذكسي عصام أبو جمرا، ترأسه عون واختار أبو جمرا نائباً له، جرياً على عرف، ما زال مستمراً، قضى باعتبار منصب نائب رئيس مجلس الوزراء من حصة الطائفة الأرثوذكسيّة. أطلق على حكومة عون “مجلس الوزيرين” وتقاسم رئيسها وعضواها عشر حقائب وزارية. لم يمتلك ميشال عون عقيدة يخوض بها معركته السياسيّة وتبرر حروبه الآتية. قبل شهرين واثنين وعشرين يوماً من تسميته رئيساً للحكومة الانتقاليّة، احتفل بعيد الجيش اللبناني في 1 آب/أغسطس 1988، وصدر، في المناسبة، كتاب حمل غلافه شعار الجيش وخلا من ذكر اسم دار النشر. يومها، كان مؤلفه العميد الركن فؤاد عون مداوماً على وظيفته ولم يكن من عادة مؤسسته العسكريّة السماح لضابط بنشر مؤلفات وتوقيعها باسمه قبل تقاعده عن الخدمة. جليّ أن كتابه صدر على نفقة مؤسسته وبإذنها وبطلب قائدها العماد ميشال عون. لا قرابة بين العميد والعماد ميشال عون. تبنى العماد نص العميد مقتبساً من عنوانه “ويبقى الجيش هو الحل” عقيدة عهده وقسمه باسترجاع سيادة الدولة وهيبتها. فما كاد مقامه يستقر في قصر بعبدا حتى فتح فوهات مدافعه، في 14 آذار/مارس 1989، معلناً حرب “التحرير” على القوّات السوريّة العاملة في لبنان، ألحقها، في كانون الثاني/يناير 1990، بتورطه و”القوات اللبنانية” في صراع دام على السلطة داخل مناطقهما، عنوانه حرب “الإلغاء”. أدّت حرباه إلى تمزيق ما لم يمزّق من أشلاء الدولة، قسّمت البلاد إلى حكومتين، عسكريّة بقيادته ومدنيّة برئاسة سليم الحص، وأوجدت شرخاً في المجتمع المسيحي قيادةً وقاعدة.

 

بغطاءين عربي ودولي، لاحت ظروف إنضاج تسوية. انتدب المبعوث الخاص للجامعة العربية، الديبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي. أجرى جولات مكوكية أثمرت مؤتمراً للحوار رعته السعودية في مدينة الطائف، بدأ في 30 أيلول/سبتمبر 1989، وحُصِر حضوره في أعضاء مجلس النواب اللبناني. قاطع عون المؤتمر ورفض نتائجه سلفاً. استمر في التصعيد. تحت وطأة العنف والقصف، شق اتفاق الطائف طريقه نحو إنهاء الحرب وصوغ وثيقة الوفاق الوطني. وُقّع في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1989، وما كان تصديقه في البرلمان وتنفيذه ممكنين إلاّ بتبدل موازين القوى الإقليمية، إثر اندلاع حرب الخليج الثانية وانضمام سوريا إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. هُزم صدام حسين وكوفئ حافظ الأسد بإعطائه الضوء الأخضر لإخماد التمرد العوني بالقوة ووضع لبنان تحت وصايته. اقتحم جيشه المناطق الشرقية، معززاً بتحليق طائراته الحربيّة فوق قصر بعبدا. حصل الهجوم في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990، وانتهى قبل أن ينجلي النهار ويفرّ ميشال عون. من السفارة الفرنسيّة، بث الراديو بيان استسلامه بصوته. منحته فرنسا حق اللجوء، ودعا المجلس النيابي اللبناني أعضاءه إلى جلسة تصديق اتفاق الطائف في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1989.

 

على ما ترتب من تبعات الاجتياح الإسرائيلي وحروب الجبل والتحرير والإلغاء، غاب مناخٌ كان مؤاتياً لرواج الفيلم التجاري. عدا أعمال قليلة جادة أخرجها مارون بغدادي وبرهان علوية وجوسلين صعب، نادراً ما نالت فرص توزيعها وعرضها في الصالات المحليّة (باستثناء “حروب صغيرة” لمارون بغدادي، عام 1982)، اقترنت الحرب بموجة أشرطة تجارية كاسحة تغذت بفكرة ساذجة برّأت اللبنانيين من مسؤوليتهم عن حرب دبّرها الخارج. حيكت حبكة غير فيلم بمجيء شرير إلى مطار بيروت، حاملاً حقيبة مثيرة للشبهات، تصله الأوامر بالهاتف من “الرأس الكبير” المقيم في مكان قصي؛ مؤامرةٌ يصنعها غريب غفل وتنشر الفوضى وتقتل الآمنين على أيدي عصابات التهريب والزمر المسلحة، لا خلاص منها إلاّ بسواعد جنود الجيش والفرقة “16”. ظلّت الحبكة صالحة للتداول في غالبية الأفلام ولاقت إقبالاً مشجعاً من الجمهور. صار الفيلم نوعاً من الامتياز لفريق عمله. سهلت أذونات التصوير اجتيازه خطوط التماس وتنقله الحرّ بين غربي بيروت وشرقها وسائر المحافظات. وسخّرت الميليشيات شبّانها للحماية أو للمساعدة في تصوير مشاهد المعارك وملء أدوار الكومبارس، حيثما لزم الأمر.

 

لم تدم سنوات العسل طويلاً بين السينما والحرب ورموزها. تردّت الأوضاع في شكل متسارع وبلغت الأزمة اللبنانية أشدها في المرحلة الوسيطة الممتدة من الاجتياح الإسرائيلي، صيف 1982، إلى مجازر الجبل، خريف 1983. بدا أن اللبنانيين فضلوا احتضان الحرب بأنفسهم وإشعالها في مدنهم وبلداتهم. تذابحوا. وانقسم الجيش بولائه وألويته. حمل اللبنانيون جوازي سفر، كُلٌّ بحسب منطقته الخاضعة لإحدى الحكومتين العسكريّة أو المدنيّة. أصبح تصوير الأفلام محفوفاً بالأخطار. تعسر جمع الممثلين والفنيين من مختلف المناطق وإعادتهم سالمين إلى بيوتهم. حتى صالات العرض انخفض معدل ارتيادها وتعطل العديد منها عن العمل.هيّأت الحرب أرضيّة ملائمة لقيام سينما “وطنيّة”. قبلها، ظهرت مساع قليلة لإنتاج أفلام محليّة الطابع واللهجة، تهاوت جميعاً في شبابيك التذاكر. تراءى من توافد المنتجين الأجانب في أواخر خمسينات القرن العشرين أن طبيعة لبنان ومناخه مناسبان لتصوير المناظر الخارجية. ثم، ومن تكاثر المشاريع وتأسيس استوديو بعلبك في الستينات، تأهل البلد لتقديم خدمات الإنتاج. إثر تأميم السينما في مصر، تعززت خصوصيته الاقتصادية – الخدماتيّة بسريته المصرفية واستقطابه الباحثين عن ملاذ مالي آمن، لا سيما غداة تأميم القطاع الخاص في مصر. وصل الإنتاج اللبناني – المصري المشترك إلى ذروته، واتسع نطاقه شاملاً سينمائيين وممثلين وفنيين من سوريا وتركيا والعراق وإيران وسواها. أُنتج ما ينوف على مئة فيلم طوال الستينات وأوائل السبعينات، وكانت مختلطة اللهجات على نسبة زائدة من المحكية المصرية، مبررة بتربع الفيلم المصري ونجومه على عرش الإيرادات. أنعش تعاقب الأفلام فرص العمل وكان الرابح الأكبر موزعها. غير أن الموزع اللبناني استبعد بلده الصغير من حساباته وتطلع إلى أسواق خارج حدوده، أقربها وأكبرها مصر. وكان له ما شاء. فبعد وفاة جمال عبد الناصر ورد خلفه أنور السادات الاعتبار إلى القطاع الخاص، أحكم سيطرته على الأفلام المصرية، ورهن إنتاجها بالسلف الممنوحة عبره لقاء حيازته أشرطتها السالبة (النيغاتيف) وعدداً من نسخ العرض وحقوق التوزيع والفيديو في أنحاء العالم. لم يتوان عن ممارسة اللعبة نفسها في لبنان، حين اغتنم رواج أفلام الحرب مستغلاً معاناة منتجيها من ندرة المموّلين وغياب صناديق الدعم والقروض المصرفية. كان “موفّر السيولة” في طريقة ما. رغم تنازله عن تطعيم الأفلام بنجوم مصريين والتحدث بمحكيتهم، أقدم على الاستثمار. ونجح. حصد قسطه الوافر من الأرباح. ومن الإنتاج المشترك مع مصر إلى أشرطة الحرب، رعى موجتين سينمائيتين تعالت إحداهما على الأخرى برداءة نوعيتها، وكادتا تتشابهان لولا وراثة روّاد موجة الحرب – وجلهم اكتسب خبرته من التدرب والعمل سابقاً مع المصريين والأجانب – رغبة مزمنة في إنتاج أفلام متممة سماتها الوطنية صوتاً وصورة، ينفذها لبنانيون وتغطي نفقاتها من عروضها المحليّة. أصابوا هدفهم إلى حد أن مرحلتهم أنتجت أفلاماً ما زالت الأعلى عدداً مقارنة بالمراحل كافة من تاريخ السينما اللبنانيّة؛ ظاهرةٌ فريدة ليست مسبوقة وغير قابلة للتكرار، إذ إن الإنتاج، خارج الصناعات العملاقة، صار أكثر اعتماداً على صناديق الدعم وتعدد أطرافها إقليمياً ودولياً. إنتاجاً وتوزيعاً وعرضاً، تغيّرت قواعد اللعبة نتيجة الغزو التلفزيوني بشبكاته الفضائية، وولوج العصر الرقمي والبث عبر الإنترنت، وتحفيز المتفرّج بباقات البرامج وحرية المشاهدة، وانتقاء اللغة/اللغات من لائحة تزيد أحياناً عن عشر لغات تحدد رؤية الفيلم مترجماً وسماعه ناطقاً لغته الأصليّة أو مدبلجاً.

 

ولّى تقييد جنسيّة الإنتاج بلغته الأم. أفضت مساهمة المنصات الرقميّة في إنتاج الأفلام والمسلسلات، أو الاستحواذ على حقوق عرضها، إلى تسارع الوتائر وتغلغل معايير الاستهلاك في صلب موازنة الفيلم. غلبت فذلكة التسعير في توليف الموازنات. لكل شيء سعره، لا سيما اللغة. على سبيل المثل، تتحدد نسبة مشاركة الصناديق الفرنسية في دعم إنتاج فيلم لبناني تبعاً لنطقه الفرنسيّة مقارنة بلغته المحكيّة. كلّما زادت نسبة تحدث الفيلم بالفرنسيّة، ارتفعت قيمة دعمه المادي أو العيني. وفي حال الحرص على اللغة الأم، يبقى من شروط الدعم، مهما تدنت قيمته، التعاقد مع فنيين فرنسيين في تنفيذ العمل.

 

ينسحب نموذج الدعم الفرنسي على سواه في أوروبا، وإن تفاوتت السياسات وأساليب التطبيق. النموذج ليس وقفاً على الغرب. للقطاع الخاص في العالم العربي نمطه، طبقاً للممارسات السارية، حيث أحجم اللبنانيون من منتجي الأعمال التلفزيونية عن طلب المساعدة من صناديق الدعم أو من طريق الإنتاج المشترك. درجوا على تهجين مسلسلاتهم باللهجتين اللبنانية والسوريّة، أو دمجهما والمصريّة معاً بغية الوصول إلى جمهور أعرض وشاشات أكثر. عنهم، يتميز المنتجون السينمائيون بالانفتاح على برامج التمويل والتعاون مع أطراف متعددة الجنسيّات. غريب كيف تقرّب إنتاج السينما والتلفزيون في القرن الحادي والعشرين، وبأشكاله القائمة حالياً على فوضى اللغة والهوية، من الإنتاج اللبناني – المصري في ستينات القرن العشرين، وكيف ابتعدت سينما الحرب عما سبقها. اكتفت سينما الحرب بما كان لديها. لازمتها الحرب وكانت بمثابة الشريك الصامت في إنتاجها. لعل من يحنون إليها أقلّ ممن يحنون إلى الحرب. ولعلّني وضعت نصّاً عن الحرب بات في ذمة أيامه وأيامي معاً.

 

في مكاتب جريدة “السفير”، ولدت فكرة “السينما المؤجلة”. لا بد من شكر وعرفان مضاعفين بعدد السنين الفائتة وأكثر للروائي الياس خوري، على حبه وصداقته وأمانته في إصدار الكتاب عن “مؤسسة الأبحاث العربيّة”. لدى مراجعتي الطبعة الثانية، تملكني جزع من مرور أربعين عاماً على طبعته الأولى. كأن مَنْ كتبها شخص آخر، كنته وما عدته. احتراماً له، تركت النص على أصله. لم أغيّر فيه شيئاً، عدا تصحيح أخطاء مطبعية وصوغ فقرتين التبستا على القارئ جراء سقوط أسطر منهما سهواً في الطبعة السابقة.

 

لا يعيش المرء حياة واحدة، بل حيوات عدة وميتات بعددها ويزيد. يفرحني إحياء الكتاب، ويحزنني رحيل الذين تناولهم من منتجين ومخرجين وفنيين عملت معهم. أفتقدهم كثيراً. ويحزّ في نفسي أكثر ألا يكون في وسعي، وعلى عادتي كلّما صدر لي كتاب، أن أهدي نسخته الأولى إلى أمي.

تابعنا عبر