عماد الشدياق – اساس ميديا
يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا حلّ في الأفق حتى الآن. في حين أنّ الاتفاق المبدئي الموقّع بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي مُهدّد بالوفاة. بل ربّما أصبح بحكم المتوفّى بالفعل، وينتظر دفنه… كلّ ذلك يقود حكماً إلى حتمية البحث عن “طرف ثالث” بخلاف الأطراف المتنازعة، يكون محايداً وشفّافاً: يوزّع المسؤوليّات بشكل علمي. ويطرح أفكاراً عن شكل توزيع الخسائر، ويبتّ الجدل الدائر حول جدوى الاستعانة بصندوق النقد الدولي من عدمها.
حلّ الأزمة الاقتصادية هو فشل توارثته على مدى تلك السنوات إلى الآن: 3 حكومات ومجلسان نيابيان متعاقبان. عجزوا مجتمعين عن تظهير شكل مقبول للحلّ. وحينما نقول “شكلاً مقبولاً للحلّ” لا نقصد خطّة ترضي طرفاً على حساب آخر مثلما حصل في الخطّة الأخيرة التي تقدّمت بها الحكومة فرفضتها المصارف ورفضها المودعون طبعاً. فذهبوا إلى حدّ اتّهام صندوق النقد الدولي بالتآمر ضدّهم. ووصل الأمر بالبرلمان إلى حدّ سحب يده منها، وهو ما فعله أيضاً مصرف لبنان. بينما المطلوب واضح، وهو: رسم خطّة حقيقية واقعية قابلة للتطبيق ترضي أغلب الأطراف “بالحدود الدنيا”، وتكون بموجبها:
1- الحكومة قادرة على تنفيذ قراراتها.
2- مجلس النواب قادراً على سنّ القوانين الخاصّة بها.
تمارس الحكومة مع مجلس النواب لعبة “تقاذف مسؤوليّات” بحِرفية منقطعة النظير فحينما تتقدّم الحكومة بخطّة، يرفضها جزء من الوزراء فتسقط
تضارب بالمصالح وتناقض في الرؤى
لكنّ هذا ما يبدو متعثّراً حتى اللحظة ولا إمكانية لحصوله من أجل وضع حدّ للأزمة الاقتصادية التي يتقاذف الجميع مسؤوليّاتها. وذلك لأسباب عديدة تتأرجح بين تضارب المصالح وتناقض الرؤى الاقتصادية، اللذين تجلّيا في سلوك الأطراف كلّها منذ ما يزيد على 4 سنوات إلى اليوم، وفق التالي:
1- تناقض السلطة: تمارس الحكومة مع مجلس النواب لعبة “تقاذف مسؤوليّات” بحِرفية منقطعة النظير. فحينما تتقدّم الحكومة بخطّة، يرفضها جزء من الوزراء فتسقط قبل بلوغها البرلمان… فلا تصل إليه، ثمّ تُتّهم الحكومة بالتقصير. أو تتّخذ الحكومة قرارات إصلاحية فتحيلها إلى مجلس النواب، فيرفضها هو بدوره، ويعتبر أنّها قرارات تنفيذية ليست من صلاحيّاته. مثلما حدث في تحديد سعر الدولار المصرفي، وفي تحديد سعر الصرف وتحريره يوم مناقشة الموازنة.
2- المصارف: يقرّ المجلس المركزي في مصرف لبنان تعاميم، فتشكّك فيها المصارف. وتقول إنّها غير قادرة على تطبيقها، أو يلتزم بها عدد من المصارف بينما يمتنع عدد آخر، (التعميم 166 مثال على ذلك)… فتمسي قرارات المصرف المركزي “استنسابية” يستفيد منها مودعون ويخسرها آخرون… وكلّ ذلك بسبب عدم إقرار قانون “هيكلة المصارف”، الذي قصّر في إقراره الطرف الأوّل أعلاه، ثمّ نعود إلى تقاذف الأدوار.
الأزمة الاقتصادية
3- مصرف لبنان: يتّهم السلطة السياسية بالتقاعس عن إجراء الإصلاحات، ويعيد على مسامعها، بين الحين والآخر ومن خلال بيانات “تذكيرية”، بأنّ تأخير إنجاز القوانين الإصلاحية سيُضعف المكانة المالية للدولة اللبنانية، وسيأتي بالضرر على المودعين وأموالهم. فيدعو في الوقت نفسه السلطة إلى وضع خطّة “واقعية وعلمية” والإسراع في محاورة الدائنين. متعهّداً بالقيام بما تمليه عليه القوانين المرعيّة الإجراء… لكنّ “المركزي” بدوره يمتنع عن استخدام صلاحيّاته وسلطته من أجل الادّعاء على المتورّطين الذين تكشف ارتكاباتهم وسائل الإعلام والتحقيقات الاستقصائية، أو حتى محاسبة المصرفيين الذين لا يُبدون التزاماً بتعاميمه، منتظراً السلطة السياسية أن تحلّ مكانه ببعض الأمور المصرفية التقنية فتقوم بما لا صلاحيّات لها لفعله، من أجل حلّ أزمة اقتصادية تقترب من عامها الخامس.
يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية
4- المودعون: يطالبون المصارف بالحصول على ودائعهم، فتقول لهم المصارف أنّها لا تملك الأموال. فتحيلهم بدورها إلى مصرف لبنان الذي يمتنع عن ردّ التوظيفات وودائع المصارف لديه، التي هي في الأصل ودائع المودعين. كما يمتنع عن تقديم خطّة أو آليّة تعترف بتلك الأموال، أو ترسم جدولاً زمنياً من أجل إعادتها… فتعود بذلك اللائمة على المصارف التي تقذف بها مرّة أخرى إلى حضن السلطة السياسية من خلال دعاوى ربط نزاع، أو التهديد بالادّعاء مباشرة على مصرف لبنان.
5- القضاء: في كلّ دول العالم، تُصنّف السلطة القضائية على أنّها “الحكَم” الذي يفضّ النزاعات ويحمي الحقوق. إلّا في لبنان حيث يطبّق القضاء قوانينه “على القطعة”. بعض المحاكم تقف تارة في صفّ المودعين، فتحكم لمصلحتهم ضدّ المصارف، وخصوصاً إن كان هؤلاء المودعون من حَمَلَة الجنسيات الغربية. ثمّ تارة أخرى تقف تلك المحاكم في صفّ المصارف، فتخفي ملفّات دعاوى لمصلحة مودعين في الأدراج من دون بتّها. وتارة ثالثة تقف إلى جانب السلطة فتمتنع عن إصدار الأحكام أو بتّ أمور عالقة متّخذةً مواقف رمادية بحسب مقتضيات المرحلة السياسية وتطلّعات السلطة!
لا بدّ من طرف محايد
كلّ هذا يشي بأنّ الأطراف الأربعة أو ربّما الخمسة، أي المصارف ومصرف لبنان والسلطة السياسية بين الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية، وفوقها كلّها المودعون، عاجزون عن الاتفاق على وضع خطّة “الحدّ الأدنى” للخروج من الأزمة الاقتصادية. وهم بحاجة إلى “طرف ثالث”، على الطريقة اللبنانية وكما يحصل غالباً في الأزمات السياسية.
هم بحاجة إلى جهة موثوقة ومحايدة، داخلية ربّما أو خارجية، تستطيع توصيف الأزمة الاقتصادية بموضوعية وبشكل علمي. فتمكّنها حياديّتها من توزيع المسؤوليّات بهدوء. وبالتالي رسم إطار نظري لتوزيع الخسائر يُعفي اللبنانيين من الانتظار المزيد من السنوات، بينما الحفرة تزداد عمقاً فيزداد الخروج منها صعوبة.
حلّ الأزمة الاقتصادية هو فشل توارثته على مدى تلك السنوات إلى الآن: 3 حكومات ومجلسان نيابيان متعاقبان
تلك الجهة يمكن لها أن تكون أكثر من مركز أبحاث واحد أو حتى جامعة واحدة لبنانية أو غير لبنانية مشهود لها بحياديّتها، تتوخّى منهجاً علمياً واضحاً. فتتنافس وتتسابق من أجل وضع “خطط أكثر مقبولية” بين الأطراف، فتكون تلك الخطط مرجعية أو Reference تعود إليها السلطة السياسية حينما تقرّر العودة إلى صوابها السياسي.
كما تفتح تلك الخطط النقاش في البلد مجدّداً بين النخب، خصوصاً أنّ الجميع بات يعترف بأنّ الأفق، كما الآذان، بات مسدوداً على مدى السنوات الأربع المنصرمة بكلامٍ وطروحاتٍ مكرّرة ومُجترّة ومعلوكة لن تفضي إلى أيّ حلّ للأزمة الاقتصادية في المدى المنظور… على طريقة “أينشتاين” القائل: “الغباء هو فعل الشيء نفسه مرّتين بالأسلوب والخطوات نفسها… ثمّ انتظار نتائج مختلفة”.