كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
نسمع الكثير عن دور وزارة الصحة حيال خطة التتبّع الدوائي (Meditrack) لأدوية السرطان المفقودة فيها والتي تتسرّب إلى السوق السوداء لتُباع بأسعار خيالية. ومؤخّراً يتحدّث متابعون عن “فضيحة” تلزيم مستوصفَي الطمليس وطرابلس. المستوصفان تديرهما وزارة الصحة والجهة الملزَّمة هي جمعية خاصة يرأسها أحد المحسوبين على تيار سياسيّ. ثم ما الأسباب الخفيّة التي تقف خلف إغلاق مركز الكرنتينا لتسليم أدوية السرطان منذ أكثر من ستة أشهر؟ نبحث عن إجابات.
“شحادة” الحقّ بـ”الواسطة”
قبل قرابة الشهر، وردنا إتصال من مريض سرطان يستوضح ما إذا كان بالإمكان المساعدة في تسريع عملية تسليمه دواء “Zytiga” للأمراض السرطانية من قِبَل الوزارة. المريض- واسمه المستعار سليم- سبق وحصل على الرقم الصحي الموحّد في آذار الماضي وعلى موافقة الوزارة. هو عنصر متقاعد في قوى الأمن الداخلي. لكن حين تمّ تشخيص مرضه أواخر العام 2022، كانت الصناديق قد انهارت ولم تتمكّن المديرية من تغطية علاجه. عندها لجأ إلى وزارة الصحة عبر شبكة الأمان الاجتماعي. وبعد سلسلة طويلة من الإجراءات حصل أخيراً على الموافقة. لكن ماذا عن التسليم؟ “لقد قصدتُ الكثير من الصيدليات المعتمَدة لكن الجميع أكّد لي أن هذه الإجراءات لن تصل إلى نتيجة… فغالبية المرضى لا يحصلون على الدواء وكأن المنصة هي مُنتَج إعلاني وهمي لا أكثر”.
متابعة للموضوع يومها، تواصلنا مع وزير الصحة، الدكتور فراس الأبيض، ليبلغنا بأن الدواء ليس متوافراً في الوزارة، طالباً منّا معاودة الاتصال بعد أسبوعين. أي حين يصبح توافره محتملاً. وهكذا كان. بيد أن اتصالاتنا ورسائلنا (بعد أسبوعين) بقيت بدون ردّ. حاولنا في مكان آخر. ولجأنا إلى وزير آخر متوسّطين بالـ”مَونة” على الطريقة اللبنانية لدى وزارة الصحة لأن حال المريض لا تحتمل المماطلة. لكن النتيجة بقيت واحدة. نرفع عندها العشرة، ويتوجّه سليم إلى السوق السوداء. وهنا كانت المفاجاة: علبة الدواء تَصِلُه “ديليفري” إلى البيت (كي لا تُكشَف هويّة البائع) لقاء 850 دولاراً “فريش”. والعلبة كانت مذيّلة بالختم التالي: “وزارة الصحة العامة، دواء يُوزَّع مجاناً”. الختم لا يحتاج إلى كثير شرح. لكن ماذا عن التبريرات؟ مصادر مطّلعة أشارت لـ”نداء الوطن” بأن ذلك الدواء يصل إلى الوزارة كَهِبة وهي تقوم بتوزيعه. وقد يكون ثمة من حصل عليه من الأخيرة ولم يستخدمه فقام ببيعه في السوق السوداء. احتمال آخر هو قيام أحد المرضى “الوهميّين”، بالاتفاق مع أحد الأطباء، بالمتاجرة في الدواء، من دون استبعاد فرضيّة أن يكون هناك من يعمل عمداً على بيع أدوية الوزارة في السوق السوداء. لكن أياً كان السبب، من السهل تحديد مُستلِم الدواء من خلال تتبّع رمز العلبة. فهل من يتحرّك؟
تلزيمات “أهليّة بمحليّة”؟
لنا عودة إلى موضوع السوق السوداء. لكن ننتقل إلى ما يحصل في مستوصفَي الطمليس وطرابلس. نستفسر لمزيد من المعلومات من عضو المرصد الشعبي، المحامي علي عباس. وقد أوضح لـ”نداء الوطن” أن هذين المستوصفَين تديرهما الوزارة مباشرة. فمبنى مستوصف الطمليس مستأجر من بلدية بيروت، كما أن مبنى مستوصف طرابلس مستأجر من أحد المالكين. “هذان المستوصفان ترِدهما أدوية مجانية من وزارة الصحة من خلال المساعدات المالية والهبات التي تصلها. لكن ما قام به الوزير هو توقيع عقد مع جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية. الجمعية يرأسها أحمد هاشمية (المحسوب على تيار المستقبل) ويسعى للاستيلاء على المستوصفين تحت ستار العمل الخيري. لكن هل يُعقل القيام بعمل الخير على حساب الوزارة التي ستواصل تسديد بدلات الإيجار والرواتب؟”، يتساءل عباس. ويضيف أن ما يحصل هو وجه من وجوه الزبائنية التي ستسمح للمستثمر بالتحكّم والانتقاء في اختيار المستفيدين من الدواء في وقت يحقّ لجميع المواطنين الاستفادة من مستوصفات وزارة الصحة بطريقة متساوية. فهل ما يحصل هو غطاء سياسي تحضيراً لحملة انتخابية مقبلة؟
مخالفة ثانية تضاف إلى ملف التلزيم. فتلزيم مرفق عام يستوجب الخضوع لقانون الشراء العام، في حين أن ما حصل في حالة المستوصفَين جاء دون استدراج عروض وهو أمر مخالف للقانون. “لِمَ اختيار جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية بالذات من خلال عقد بالتراضي وبطريقة مفاجئة؟”، سؤال آخر طرحه عباس. نحمله إلى هيئة الشراء العام التي أفادتنا مصادرها بأنها تقدّمت بتاريخ 09/05/2023 بكتاب استفسار إلى وزارة الصحة تطلب فيه: شرح سبب عدم الإعلان عن “عقد اتفاقية التعاون” مع الجمعية وعدم نشرها على الموقع الإلكتروني للهيئة؛ والسند القانوني والعقد كاملاً مع كافة المستندات المرفقة. الهيئة طلبت الردّ في أقصى سرعة ممكنة ليبنى على الشيء مقتضاه القانوني. لكن لا جواب حتى اللحظة.
تفكيك ممنهج
وهذا طبعاً ليس كل شيء. الأخطر مما تقدّم هو إغلاق مركز بيع دواء السرطان في الكرنتينا منذ حوالى ستة أشهر لأسباب مجهولة. فماذا يقول عباس في هذا الخصوص؟ “هذا المركز الذي كان ينتظر أمامه مرضى السرطان بالطوابير للحصول على علاجهم أُقفل ليُستبدل بمنصة يستولي عليها مستشارو الوزير وكلّ منهم محسوب على جهة سياسية معيّنة. يبدو أن هدف الإقفال هو تسليم المركز لجمعية خاصة كي تتحكّم بتوزيع الدواء كغيرها من الجمعيات، فتَحكُم بالقتل على المريض الذي يأبى “إنو يوطّي راسو لزعيم”، و”تُمنّن” المحسوبين على أركان المنظومة بدواء هو أساساً من حقّهم، للاستفادة من أصواتهم الانتخابية في ما بعد”. الصورة نفسها تتكرّر في كافة مراكز الرعاية الصحية، التي أصبحت بمعظمها تابعة للمتحكّمين بمفاصل البلد. من هنا، بحسب عباس، نرى كيف تتسابق الجمعيات للاستيلاء على المستوصفات والمراكز الصحية على حساب الأدوية التي تُزوَّد بها مجاناً.
في السياق نفسه، يقول رئيس حملة “الصحة حقّ وكرامة”، النائب السابق الدكتور اسماعيل سكرية، في دردشة مع “نداء الوطن”: “أكثر ما تفتّقت عنه عبقرية وزير الصحة هو تلزيم مستوصفَي طمليس وطرابلس إلى جمعية محتضنة سياسياً من محسوب على تيار سياسي، رغم أن الوزارة ستستمر في تسديد كافة المصاريف. وهذه إحدى بِدَع المنظومة لإبقاء المريض رهينة للتسييس والمحسوبيات”. سكرية صوّب على مؤسسات دولية تقوم بدفع مبالغ باهظة مباشرة لموظفين داخل الوزارة ولبعض رؤساء المصالح والأطباء، وذلك لتسيير عمل المؤسسات الصحية من وزارة ومراكز رعاية ومستوصفات، في حين أن الوزارة تقف موقف شاهد الزور لا أكثر. “الوزارة ابتعدت، لا بل استقالت كلياً، عن دورها الذي حدّده لها القانون ألا وهو التوعية والوقاية والرعاية. وها هي تتحوّل إلى راعية لأعمال الفساد والفشل والتواطؤ. هناك تفكيك ممنهج لمؤسسات الدولة وتسلّل اليد الخارجية إليها من خلال المنظمات التي تقوم بإسكات صرخات المجتمع”.
رعاية بـ”التراضي”
نسمع ذلك ونحاول التواصل مجدّداً مع الوزير فراس الأبيض… وننجح. هو أكّد لـ”نداء الوطن” أن الوزارة تقوم بتسليم الغالبية العظمى من الأدوية التي دخلت إلى لبنان، ويمكن إثبات ذلك بالأرقام والكميات وأسماء المرضى. “لكننا لم نقُل أن مشكلة الدواء حُلّت نهائياً وأن جميع الأدوية باتت متوفّرة. المبالغ التي يسدّدها مصرف لبنان غير كافية. كنّا نؤمّن شهرياً أدوية بقيمة 140 مليون دولار، أما الآن لا يسلّمنا المصرف أكثر من 25 مليون دولار. لكن نظام التتبّع الذي اعتمدناه سمح لهذا المبلغ بإيصال الدواء إلى حوالى 80 إلى 90% من المرضى”. أما عن السوق السوداء، فأشار إلى بعض الأدوية التي كانت تدخل لبنان لتُباع أو تُهرَّب في ما بعد. ولفت إلى وجود مرضى وهميّين يحصلون على الدواء من الوزارة للمتاجرة به لاحقاً. لكن هذه الفوضى جرى ضبطها بواسطة خطة التتبّع ونظام Meditrack وغيرها من الوسائل، على حدّ قوله.
إلى موضوع التلزيم. الأبيض رفض التعليق قبل أن “نتوجّه بأنفسنا ونكشف على موقع المستوصفَين”. “يعتقد الناس أننا قمنا بتلزيم عيادات مجهزّة بأفضل التجهيزات، أو كأننا منحنا الجمعية منجم ذهب أو أرضاً على الشواطئ البحرية. المباني مهدّدة وتشكل خطراً على من بداخلها، والجمعية مضطرة لصرف الكثير من الأموال لتقديم خدمات مجانية للمريض. فالمعاينة التي تقدّمها مراكز الرعاية الصحية تتراوح كلفتها بين 10 و20 ألف ليرة. هذه ليست مراكز لجني الأرباح. ولو كنتم مكاني لَقُمتُم بنفس الشيء”. حسناً. لكن هل هذا يبرّر عملية التلزيم بالتراضي وتوقيع عقد مع جمعية معيّنة دون الرجوع إلى هيئة الشراء العام؟ “إنه ليس تلزيماً بالتراضي. تتكلّمون وكأن هناك 50 جمعية تتصارع على إعادة تأهيل المستوصف ورفضناها. المستوصفان مهملان ووضعهما مزرٍ… شوفوا عن شو عم نحكي وبعدها ستفهمون… أما عن هيئة الشراء العام، فنحن نحلّ مشاكلنا في ما بيننا”.
نجاح السيستم يتمثّل بوصول الدواء إلى المريض بغض النظر عن تدخّل الوزير من عدمه. هكذا ختم الأبيض كلامه، مشكوراً على تأمين الدواء لِسليم في اليوم التالي. فهل يثبت القول بالفعل ويحصل سليم (كما كافة المرضى) على علاجه الشهر المقبل دون “واسطة” من أحد؟