
شارل جبور – نداء الوطن
كرّر الرئيس جوزاف عون، إبان زيارته لدولة الإمارات، الجملة التالية: “الشعب اللبناني تعب من الحرب، ولا يريد سماع لغة الحرب، ونحن مع الخيار الدبلوماسي”. تختصر هذه الجملة جوهر الانقسام في لبنان منذ حرب العام 1967، بين من يعتبر أن لبنان يجب أن يفتح حدوده لمؤازرة الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، وبين من يعتبر أن لبنان دولة مساندة لا دولة مواجهة، وأن يدعم القضية الفلسطينية دبلوماسياً مع حفظ سيادة لبنان واستقلاله، وتطوّر هذا الانقسام بين من يعتبر أن استرداد الأرض يكون بالقوة، وبين من يعتبر أن هذا الاسترداد يكون بالوسائل الدبلوماسية.
وقد استفاد حافظ الأسد من هذا الانقسام الذي عمل على تأجيجه من أجل الدخول إلى لبنان ووضع اليد عليه، ولم يعد استرجاع الأرض مع الممانعة هو الهدف، إنما تحولّت إسرائيل إلى الذريعة والسيطرة على لبنان هو الهدف، وصوِّر الخيار الدبلوماسي بالانهزامي، وصوِّر الخيار العسكري بالبطولي، وتمّت شيطنة كل من يدعو إلى الحل السياسي، وتمجيد وتأليه كل من يروِّج للحل العنفي.
ولو كان هدف الممانعة استعادة الأرض لكانت تخلّت عن الخيار العسكري بعد الخروج الإسرائيلي من لبنان في العام 2000 تطبيقاً للقرار 425، ولكنها اخترعت كذبة شبعا للاحتفاظ بسلاحها، ومعلوم أن شبعا تخضع للقرار 242 وليس 425، وأن تثبيت لبنانيتها يحتاج إلى إقرار رسمي سوري، الأمر الذي لم يحصل، لأن المطلوب إبقاء لبنان ساحة إقليمية وورقة ضغط ومساومة بيد الأسد والخامنئي.
ولأن المشروع المسلّح للممانعة هو الهدف، وصل بها الأمر إلى الإعلان بأن هدفها لا يقتصر على التحرير، إنما دورها أساسي في الدفاع عن لبنان، ما يعني إبقاء سلاحها بوظيفته المزدوجة العقائدية والإقليمية إلى الأبد، الأمر الذي يحول دون قيام دولة فعلية، ويبقي لبنان حلقة من حلقات إيران.
وقد أثبتت الوقائع التاريخية أن الخيار الدبلوماسي الذي اعتمده لبنان بين عامي 49 و69 أمّن الاستقرار والازدهار وجعل من البلد سويسرا الشرق، فيما الخيار العسكري دمّر لبنان وأبقاه ساحة فوضى وحروب، فضلاً عن أن هذا الخيار أثبت عدم جدواه خلافاً للشعارات التي كانت تطلقها الممانعة. فحرب تموز 2006 دمرّت البلد وخرجت منها الممانعة مهزومة، وقد استجدت لوقف هذه الحرب، والقرار 1701 الذي وافقت عليه كان كفيلاً بتفكيك بنيتها العسكرية لو تم تطبيقه، وفي “حرب الإسناد” سقطت شعاراتها كلها وبدت ضعيفة وهزيلة، ولو لم تستسلم بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار لكانت وصلت إسرائيل إلى الضاحية.
ولم يكن خيار القوة مع الأسد والخامنئي سوى وسيلة للسيطرة على لبنان، ولكن هذه السيطرة كانت بحاجة إلى سردية سياسية تتلطى خلفها، والسردية كانت إزالة إسرائيل ومواجهتها، ولكنها لم تتمكّن لا من إزالتها ولا من مواجهتها، وتمكنّت حصراً من تحويل لبنان إلى دولة فاشلة ومارقة.
وقد أظهر التسجيل الذي نشره نجل الزعيم جمال عبد الناصر عن المكالمة الهاتفية بين والده والعقيد معمر القذافي في شهر آب 1970، أن الزعيم المصري وصل إلى قناعة بعد ثلاث سنوات على هزيمة العام 1967 بأن الخيار العسكري وهم وغير منطقي، وأن الخيار الدبلوماسي هو الحل الواقعي الوحيد، ولو لم يكن عبد الناصر يكترث لشعبه وبلده لكان تمسّك بالشعارات التي كلفت مصر آلاف الضحايا والخسائر المادية التي لا تعدّ ولا تحصى، ولكنه جرّب الحرب واستخلص العبر منها، وهنا تكمن أهميته، وهذا ما دفعه إلى المبادرة لوقف حرب الاستنزاف من خلال الموافقة على قرار مجلس الأمن رقم 242 واقتراحات وزير الخارجية الأميركي ويليام روجرز، وجوهرهما يتعلّق بالأرض مقابل السلام.
ولكن لماذا اتعظ عبد الناصر من حرب 67 ولم يتّعظ “حزب الله” من انسحاب إسرائيل في العام 2000 ومن حرب تموز 2006 ومن حرب تشرين 2023؟ السبب واضح لأن أولوية الرئيس المصري بلده وشعبه، فيما أولوية “الحزب” عقيدته وقيادته الإيرانية، وهو وجد أساساً من أجل إيران لا لبنان.
وفي مطلق الحالات، فإن أهمية ما نشر، ولو تأخّر 55 عاماً، أن الرئيس عبد الناصر وصل باكراً إلى قناعة بأن الحل لاستعادة الأرض يكمن في الدبلوماسية لا البارودة، ولو بقي على قيد الحياة لكان تجنّب لبنان، ربما، الحرب التي دمّرته وأنزلته من مرتبة دولة إلى ورقة بيد الأسد والخامنئي.
والمهم في ذلك كله، أن أصحاب خط الدبلوماسية انتصروا، وأصحاب خط الحرب انهزموا، وكلام الرئيس جوزاف عون أن “الشعب اللبناني تعب من الحرب، ونحن مع الخيار الدبلوماسي”، يؤكد المنحى الجديد للبنان الرسمي بعد غيبوبة جهنمية دامت 60 عاماً.