أحمد الأيوبي – أساس ميديا
استنفارٌ كامل وانتشارٌ هادئ وصارم للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس، وتحليقٌ مكثّف للمروحيّات، سبقته رسائل وإنذارات حاسمة للجميع بأنّ الإخلال بالأمن سيُواجَه بيد من حديد، وأنّ الاحتفالات بفوز رئيس النظام السوري بشار الأسد بدورة رئاسية جديدة يجب أن تمرّ بدون استفزازات، وتحديداً بدون إطلاقٍ للرصاص وبدون أيّ شكل من أشكال خرق القانون، وذلك بالتزامن مع القبض على المخلّين بالأمن وعلى بعض رُماة القنابل “المجهولة” عادةً وملاحقة كلّ أنواع الانفلات في الشارع..
هكذا بدا المشهد في عاصمة الشمال ليلة إسقاط محاولات إشعال المدينة احتفالاً بفوز الأسد، وهكذا مرّت ليلة 26 أيار على طرابلس بسلام.
فقد اعتادت مجموعات ما يسمّى “سرايا المقاومة”، والفوضويون الملحقون بها، “التحرّك الحرّ” في طرابلس، وسبق أن تمكّنت من إحراق المصارف، ثمّ إحراق المحكمة الشرعية ومبنى البلدية، وكان ذلك يحدث تحت عيون الأجهزة الأمنيّة، وسط عجز موصوف عن ردعها، بسبب غياب القرار بضبط الأمن حينها، إضافةً إلى عدم جلب عناصرها ومحاكمتهم أمام القضاء.
لكنّ الجيش عالج تداعيات إشكال جونية مع السوريين الموالين لبشار الأسد، ومحاولة الحزب السوري القومي الاجتماعي و”سرايا المقاومة” نقلها إلى طرابلس، بشكل مختلف كلياً، فلاحق المعتدين على مركز حزب الكتائب ومستوصف الخيّال، ومنع محاولة الاعتداء على مركز القوات اللبنانية، وأوقف محاولاتهم إشاعة الفوضى، وتصدّى لهم، وألقى القبض على عدد من المتورّطين منهم بهذه الاعتداءات.
لكنّ ليل الخميس، 26 أيار الجاري، شهد محاولات مستمرّة لخرق الأمن. ووقعت بعض الأحداث المحدودة من إلقاء للقنابل، ومحاولات عدد من مؤيّدي الأسد الاحتكاك الاستفزازي بأبناء التبّانة. وطوّق الجيش واستخباراته وشعبة المعلومات كلّ تلك المحاولات وأخمدوها، إلى حين طلوع فجر يوم الجمعة، فكانوا نموذجاً مختلفاً لحضور الأجهزة الأمنيّة في مدينة طالما عانت غياب الأمن والاستقرار.
من المتغيّرات التي يجب الوقوف عندها، ارتفاع منسوب الوعي في المناطق الشعبية، وتقدّم التواصل الاجتماعي بين أبناء منطقتيْ التبّانة وبعل محسن، عزّزه تواصل نوعيّ بين استخبارات الجيش والفعّاليّات المؤثّرة في طرابلس. وهذا الأمر كان له دور مهمّ في إخماد نار الفتنة.
كان الاجتماع، الذي انعقد مساء 23 أيار 2021، في قاعة مسجد الرحمة بالقبّة، بدعوة من مسؤول “اللقاء الشعبي” زكي مقصود، نموذجاً لتقدّم الوعي لدى الفعّاليات الشعبية، بينهم أغلب القادة السابقين لـ”المحاور”. وقد تناول الاجتماع إشكالية “سرايا المقاومة”، واعتداء عناصرها على المواطنين. واتّفق الحاضرون على العمل لضبط المواقف في الشارع، والتعاون من أجل هذا الهدف مع القوى الشرعية.
كشفت الأحداث أيضاً وجود تواصل اجتماعي يوميّ بين شباب من التبّانة وآخرين من بعل محسن. كثيرون منهم سبق أن شاركوا في معارك بين المنطقتين. وهم يرفضون أيّ محاولة للعودة إلى التوتّر، وكان لهم تأثير جيّد في إحباط عمليات التحريض التي يقوم بها المحسوبون على النظام السوري.
وقد تأكّد حضور رفعت عيد إلى بعل محسن لضمان مشاركة جماعته في الاقتراع لمصلحة بشار الأسد، لكنّه لم يلقَ خلال وجوده في المنطقة الترحيب الذي كان يتوقّعه. وقد نقل شهود عيان أنّ نسبة كبيرة من أهالي المنطقة الذين يخشون تجدّد الاشتباكات في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان قد تجنّبوه. في مؤشّر إلى أنّ عيد فَقَدَ جزءاً مهمّاً من شعبيّته التي كانت تستند إلى التحريض على أبناء طرابلس، وإلى الاستقواء بالسلاح. وخسر سطوته على أبناء المنطقة، ولم يعد قادراً على فرض إرادته عليهم بالإكراه. وهذا يؤسّس لمرحلة جديدة في العلاقة بين بعل محسن وطرابلس، تطوي صفحات الصراع السوداء.
ومن مؤشّرات الانفتاح في بعل محسن مبادرة المختار عبد اللطيف صالح إلى تعليق لافتات تدين الإساءة إلى المملكة العربية السعودية في عدد من شوارع المنطقة، وسط ترحيب لافت من أبنائها، في إشارة واضحة إلى تمسّكهم بالانتماء العربي، وفي رسالة إيجابية لمحيطهم المباشر.
وكان دور دار الفتوى من العوامل المهمّة في تهدئة الشارع. إذ حرص المفتي الشيخ محمد إمام على التواصل مع خطباء المساجد، وحثّهم على توعية المصلّين لتفويت الفرصة على كلّ من يسعى إلى الفتنة. وكان هذا أيضاً موقف هيئة علماء المسلمين ورئيسها الشيخ سالم الرافعي، الذي شدّد على أنّ حفظ الأمن هو واجب القوى الشرعية، وأنّ جميع أبناء طرابلس يقفون معها لفرض الاستقرار ومنع أيّ محاولة لإعادة نكء الجراح، أو استعادة الصراعات المسلّحة.
الرافعي قال في حديث لـ”أساس” إنّ “مطلبنا الأوّل هو حضور الدولة، ونريد لطرابلس أن تنعم بالاستقرار، وأن تتفرّغ لمعالجة مشكلاتها الاقتصادية المتفاقمة”. وتابع: “نسعى إلى وحدة الصفّ والكلمة، والتعاون بين جميع أبناء المدينة، بمختلف طوائفهم ومناطقهم. ونلمس من الجيش خطوات إيجابية، طالبنا بها منذ زمن. فليس لدى أحد أوهام بأنّ هناك بديلاً عن الدولة، لا في الأمن ولا في الاقتصاد ولا في الصحة ولا التعليم..”.
وختم الرافعي حديثه بالدعوة إلى “حوار ديني اجتماعي اقتصادي وطني في طرابلس للتفاهم والتعاون من أجل الوصول إلى رؤية مشتركة للمخارج الممكنة من الأزمة والانهيار من خلال تآزر المرجعيات الدينية والمجتمع الاقتصادي والمغتربين من أبناء الفيحاء”، معتبراً أنّ “هذا التوجّه يمكن أن ينشأ عنه نموذج إيجابي يصلح للتعميم في سائر المناطق”.
يمكن القول إنّ طرابلس أمام مرحلة جديدة، أو سياسة جديدة للجيش في المدينة، تختلف كليّاً عن سابقاتها، فهل يمكن أن نرى من خلال الترتيبات التي اتّخذها الجيش، وحمى فيها طرابلس من “نيران بشار الأسد”، نموذجاً جديداً ينسجم مع الانفتاح الدولي على المؤسسة العسكرية، وبداية توازنات جديدة على المستوى الوطني؟