هيام القصيفي – الأخبار
يستذكر أحد السياسيين المخضرمين الوضع اللبناني قبل حرب عام 1975، حين كان لبنان يغلي بين حركات اليسار واليمين، والتحركات الطالبية والجامعية والتظاهرات العمالية (التي لا تشبه بشيء تظاهرة الاتحاد العمالي الأخيرة) ورفع الشعارات ضد السلطة القائمة التي جرى التعبير عنها بشعارات أحياناً ضد المارونية السياسية وأحياناً ضد السلطة بكامل قواها. وتزامنت هذه التحركات مع الانتفاضات الطالبية في فرنسا وحراك أوروبي، وفورة عربية وفلسطينية، على وقع توترات إقليمية بين حربَي 1967 و1973 وغليان في دول المنطقة الذي قمعته أنظمتها الديكتاتورية. لكنه انفجر في لبنان عام 1975 على شكل حرب. فتغيّر المشهد الاحتجاجي الذي جرى التعبير عنه بتظاهرات وصدامات، ليذوب الحراك الشعبي في صراعات طائفية ومذهبية على مساحة كل لبنان، بين كل الطوائف والمذاهب من دون استثناء.
هل يمكن الرهان على تغيير جوهري في نتائج الانتخابات النيابية المقبلة ما دام أول اشتباك حادّ جعل الاستنفار الطائفي يصل إلى قمته؟
منذ صيف عام 2019، تفاعلت إشارات الغليان في بيروت، وسط تصاعد التحذيرات من الانهيار الاقتصادي الذي يُقبل عليه لبنان، وسط اللامبالاة من السلطات المتعاقبة. وحين بدأ أول ملامح الأزمة الاقتصادية، وقبل أن تستفحل في التظاهرات الشعبية، وما لحقها من انهيار في العملة اللبنانية، بدا أول ملامح الحراك اللاطائفي واللاقبلي. فجرى التعامل مع اقتراح فرض ضريبة على الـ«واتساب» على أنها شأن حيوي. وهذا أمر خرج في بعض أوجهه عن تحكّم القوى السياسية برقاب الناس الذين تفلّتوا جزئياً من كادر الأحزاب والطوائف، وأعطى ملامح إيجابية طفيفة سرعان ما اختفت. لكنّ المفارقة أنّ الانهيار التالي، إنْ في قيمة الرواتب وحجز المصارف أموال المودعين أو ارتفاع أسعار السلع وفقدان الأدوية، وكلها قضايا كبرى على المستويات الحياتية والاقتصادية والاجتماعية، لم تتحوّل شأناً عاماً. وجاءت أزمة البنزين لتجعل السؤال الأكثر تداولاً: لماذا لا يتحرك اللبنانيون ضد ما يجري؟ وهل يكفي أن بعضهم قادر على «تدبير» صفيحة بنزين بـ«الواسطة» أو بدفع كلفة إضافية، لمنع الانفلات الغرائزي؟ ولماذا لا تتحول قضية حليب الأطفال أو فقدان مسلتزمات غسيل الكُلى والبنج والطعام قضية قادرة على تحريك الرأي العام؟ ولماذا لا يستمع أحد إلى شهادات المؤسسات الفاعلة في المجال الاجتماعي، من دون تزييف، عمّا يحصل في المنازل وكيف تدهورت أوضاع العائلات في تفاصيل الحياة اليومية؟ وإلى أي مدى يمكن أن تعود مشاهد الحرب بوجهها الاجتماعي في تعبئة غالونات البنزين والمياه وتهريب الخبز وتشغيل بطاريات السيارات للإضاءة وغيرها من اختراعات الحرب، من دون أي ردة فعل رافضة؟ هذه الأسئلة يطرحها باحثون وسياسيون، وهي تستدعي فتح النقاش الجدي، لأن لا أجوبة «علمية» يمكن الخروج بها عن حالة الخدر التي يمر بها اللبنانيون، فلا تصبح ردة الفعل على مآسيهم جماعية. المشهد الحقيقي هو حالة الفقر لا حالة الحجوزات إلى قبرص وأوروبا ولا عودة الحياة إلى المطاعم والمسابح، وما ينفقه بعض العائدين من الاغتراب. ما ظهر حتى الآن أن اللعب على وتر المساعدات بعد انفجار المرفأ، التي أمّنتها القوى السياسية والجهات الدينية، أعاد الناس إلى القبلية والطائفية، وعادت الأحزاب تتحكّم بإدارة «مناطقها وناسها»، إنْ عبر المؤسسات الدينية أو عبر القنوات الحزبية. لكن ما زاد من حجم الارتداد الطائفي والمذهبي، الشحن السياسي بشأن قضايا مفصلية، فتعمّقت المشكلة الاجتماعية الممزوجة بالمشكلة البنيوية للنظام في حالته الحاضرة. فلم يعد ممكناً الكلام عن حلول خارج منطق إيجاد حلول جذرية للنظام، ومعه معالجة الانبعاث المتجدّد للحالة الطائفية المتمثلة تحديداً بهذا الاستسلام إلى قيادات سياسية ومالية، رغم إمعانها في تهشيم حياة اللبنانيين، فيصبح التجييش الطائفي أهم من الحصول على دواء وخبز وبنزين.
من هنا تُستكمل مجموعة الأسئلة حول الانتخابات النيابية المقبلة، وإمكانات التغيير فيها. فالانتخابات التي تُترجم منذ أكثر من شهر تحركاً لماكينات الأحزاب، هل تقدر أن تنتج برلماناً مغايراً عن الموجود؟ وهل يمكن الرهان على مجلس نواب خارج إطار المنظومة الحالية، ما دام أول اشتباك حادّ جعل الاستنفار الطائفي يصل إلى قمته؟ ومن يعرف أمنياً ما حصل من اتصالات في الساعات التي سبقت يوم الخميس الماضي وتلته، يدرك حجم التجييش الطائفي وأهمية المحاولات التي جرت لاحتواء مبكر لتوتير الوضع ميدانياً في مناطق حسّاسة.