خلدون الشريف
مع عودة الحديث عن إرتفاع منسوب الخوف الغربي من إحتمال تحرك خلايا داعشية على خط الزلازل العراقي السوري اللبناني، يتجدد القلق من محاولات شيطنة مناطق لبنانية معينة. ولكل “إستثمار”، سياسي أو أمني، مداخله. بالمقابل، للشمال اللبناني وعاصمته أن يردا بإستثمار من نوع آخر. بالبشر والتكافل الإجتماعي والأهلي الحقيقي.
قبيل نهاية العام ٢٠٢٠، رُصِدت حركة ديبلوماسية ناشطة بإتجاه مدينة طرابلس، غايتها متابعة اوضاع المدينة بمستوياتها كافة. فإعتباراً من مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر وحتى يومنا هذا، إستقبلت المدينة سفراء سويسرا، كندا، فرنسا والولايات المتحدة وبعضهم زارها أكثر من مرة. كان اللافت للإنتباه حرص “مجتمع السفراء” على أن تكون الأولوية للتعرف إلى برامج الهيئات الإقتصادية ومؤسسات المجتمع الأهلي في طرابلس والشمال؛ الإستفسار عن مرفأ طرابلس والمعرض والمنطقة الإقتصادية؛ أولويات المجتمع الشبابي؛ إمكانية تنظيم برامج مساعدات غذائية وصحية (فرنسا خصصت لذلك أكثر من مليون يورو لطرابلس).
بدا هؤلاء السفراء وغيرهم ممن زاروا عاصمة لبنان الثانية، بعيدًا عن عدسات الإعلاميين، مصدومين بالتهميش وغياب مؤسسات الدولة اللبنانية. ثمة أمور بسيطة جدًا يمكن أن تفتح آفاقًا لهؤلاء المهمشين، بعيدًا عن منطق العمل الخيري، على أهميته وضرورته، لكن الأثبت هو تدعيم المجتمع المحلي ولو بفرص عمل صغيرة؛ بفرص مدرسية وجامعية ومهنية.
المؤسف أن “الأمم” تحاول أن “تستثمر” في أوضاع إجتماعية قاسية، في الوقت الذي نشهد فيه تحلل ادارات الدولة ومؤسساتها. لقد حُلَّ مجلس بلدية الميناء ويسيطر الخلاف على مجلس بلدية طرابلس ويفقد المجلس البلدي في القلمون حيويته، ويقع اتحاد بلديات الفيحاء تحت سيطرة وعين محافظ غائب وغير محب لمكان عمله اصلًا يقابله إنتفاء الود له في بيئة عمله، وفي الوقت الذي يتعرض فيه نواب المدينة ووزيرها لضغوط يومية من قبل مجموعات في الشارع، بعضها نقي نقاء الثلج، وبعضها الآخر موظف لغايات سياسية حينًا ولغايات أمنية في أغلب الأحيان، وعلى الرغم من حضور واضح لجمعية العزم ومؤسسة الكرامة و(مؤسسة الصفدي بشكل اقل)، ينطلق عدد يعتد به من مؤسسات المجتمع الأهلي، لملء فراغ الدولة وغيابها. مجتمع اهلي لا يحبُ الظهور ولا يسعى للصدارة ولا ينافس سياسيي المدينة ولا جمعياتهم. يتعاطى بقطاعات مختلفة تتكامل في ما بينها لتؤمن شبكة أمان تحفظ طرابلس من الإنهيار الحتمي وتحصن التكافل الأهلي والمجتمعي بما أمكن من قدرات. مجتمع أهلي صار راسخًا في المدينة وله بناه التحتية وحضوره ودوره.. ودائمًا بكل حرفية ورقي وإحترام.
هذا النص له وظيفة واحدة. محاولة لتسليط الضوء على تجارب تحتاج إلى إحتضان وتطوير، بما فيها إحترام هذه الحركة الدبلوماسية التي تتعاطى مع المؤسسات التربوية والتعليمية والناشئة وتلك التي تعنى بالتدريب المهني، وبالإبداعات الفنية والثقافية وبالمساعدات الغذائية والصحية للفئات الأكثر حاجة وضعفًا.
لقد استمعت بفخر كبير لما يقوله ممثلو الدول والجمعيات الدولية غير الحكومية عن اداء جمعيات طرابلس قبل سواها وبأن المدينة زاخرة بطاقات لا تحدها أية حدود، من الرؤية التي اطلقت في غرفة التجارة والصناعة حول طرابلس عاصمة لبنان الإقتصادية، الى اصغر جمعية تتولى اطعام او كسوة عشرات المساكين والفقراء.
بعض تلك الجمعيات الطرابلسية، رفضت وترفض كل دعم يأتي من سفارات او من رجال سياسة وتكتفي بما تحصل عليه من دعم محلي وهو للأمانة دعم لا يستهان به يسمح لتلك المؤسسات ان تقدم الكثير والذي يبقى قليلًا امام حاجات المدينة وساكنيها من مناطق الجوار. والضدُ يظهر حسنه الضد
ولكم أُطلقت حوارات خلال سنوات خلت، لتغيير الصورة النمطية التي فُرِضَت على طرابلس لأسباب سياسية محلية ضيقة، ولأسباب اقليمية مرتبطة بالتنميط أو بضرورة خلق “بعبع سني في لبنان” مواكبة لما يجري في المنطقة، الى الحاجة الدولية في وقت من الأوقات لإبقاء ذروة التوتر المُبَرِرة لإبقاء قوات اجنبية متأهبة وحاضرة على الأرض من المحيط الى الخليج.
ولقد استطاعت تلك الجمعيات المتطوعة والتي اشتد عودها أن تثبت أمورًا عديدة اولها واهمها ان نسيج طرابلس هو نسيج لبناني صرف تَظَّهّرت اوضح صوره مع انطلاق تحركات ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٩. مدينة لها خصوصياتها ولكنها مدينة لبنانية بإمتياز تم استخدامها لعقود كصندوق بريد اقليمي ومحلي لكنها تجاوزت في لحظة واحدة كل جراحها وانتفضت مع المنتفضين بلبنان حتى لقبت “عروس الثورة”.
تزخر طرابلس بامكانات هائلة، ولعل تلاقي القوى الحية في المجتمع وتشاركها في ما بينها من خلال بناء قواعد معلومات مشتركة ومن خلال رفع التنسيق بين كل تلك المكونات كما توزيع المهام بينها، إنما يؤدي الى اعادة ثقة ابناء المدينة ورجال اعمالها ومثقفيها بمدينتهم ويؤدي ايضًا الى اعادة الإهتمام الغربي والعربي بالمدينة ويفرض في مرحلة مقبلة على كل السياسيين والقيادات المحلية المنتخبة من بلديات أو المعينة من ادارات رسمية ان تتحسب لأدائها في زمن تشتد فيه الحاجة للمحاسبة.
قد يكون من المفيد، اضافة الى تعزيز التعاون بين تلك الجمعيات، اعداد برامج ومشاريع متكاملة بوضوح وشفافية كي ترفع للجهات المانحة كما للمتمولين المحليين تشمل دور ووظيفة مرفأ طرابلس وامكانية تطوير منطقته الإقتصادية وصولًا الى تفعيل الصناعات الحرفية من تجارة وصناعات زراعية ونحاس وصابون وما بينهم من بناء مؤسسات ناشئة تتعاطى الذكاء الاصطناعي او التطبيقات الذكية إلخ..
بعض تلك الجمعيات الطرابلسية، رفضت وترفض كل دعم يأتي من سفارات او من رجال سياسة وتكتفي بما تحصل عليه من دعم محلي وهو للأمانة دعم لا يستهان به يسمح لتلك المؤسسات ان تقدم الكثير والذي يبقى قليلًا امام حاجات المدينة وساكنيها من مناطق الجوار. والضدُ يظهر حسنه الضد.
الا يكفي ان يكون جبل نفايات طرابلس الزاخر بالسموم والصفقات والإرتكابات مدخلًا لمحاسبة كل من استخف بأرواح وصحة ابناء طرابلس؟ الا تستدعي الدعوى المقامة من ناشطين واصحاب مهن حرة تحرك القضاء دون ابطاء لمحاسبة المقصرين والمرتكبين والراشين والمرتشين اذا ما ظهروا وادينوا؟
من طرابلس انطلقت قافلة الناس الطيبين والى لبنان التوجه والإنتماء.