
تشير التحركات الإيرانية المتسارعة، إلى جانب المحادثات النووية مع الولايات المتحدة، التي وصلت إلى جولتها الثالثة، إلى أن القضية النووية لا تقتصر على مسألة الحصول على ضمانات بعدم امتلاك إيران السلاح النووي؛ لأنها تجري وسط أحاديث عن النظام العالمي الجديد الذي يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إقراره في مواجهة الصين، التي تشكّل التحدّي الرئيسي لبلاده بنموها الاقتصادي السريع وتقدّمها التكنولوجي ونفوذها العالمي المتزايدفإن كانت عملية التفاوض مع إيران لا تزال تجرى تحت وطأة التهديد العسكري، إلا أنها جزء من مساعي إدارة ترامب لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، بما فيه استعادة العلاقات الاقتصادية مع الضفة الشرقية من مياه الخليج، من أجل إدارة المعركة مع التنين الصيني من مناطق نفوذه بدلاً من الذهاب إلى حدوده! وإذا كانت بكين تختبر صبر ترامب بمناورات الزوارق الحربية في المحيطين الهادئ والهندي، وعلى أعتاب تايوان وفيتنام وأستراليا، فإن معركة الرئيس الجمهوري تمضي على مسار الحدّ من مبادرة الحزام والطريق الصينية، من خلال الضغط على حلفاء بلاده التجاريين. ولذلك يحتاج إلى جذب روسيا وإيران إلى جانبه برفع العقوبات عنهما وإعادتهما إلى السوق العالمية لمنع نفطهما الرخيص عن الصين، وكذلك يجد للشركات الأميركية أيضاً فرصة في سوقَيهما.
تحرّكات من موسكو إلى بكين
قبل اجتماع الجولة الثانية من المفاوضات مع واشنطن، السبت 19 نيسان/أبريل، ذهب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى روسيا، حيث سلّم رسالة من المرشد الأعلى علي خامنئي إلى رئيسها فلاديمير بوتين، وعاد برسالة مقابلة. تزامن مع ذلك وصول رسالة من العاهل السعودي إلى المرشد الإيراني، حملها وزير الدفاع خالد بن سلمان؛ وإن كانت زيارته مخططاً لها مسبقاً، لكنها أظهرت أنه في حالة نجاح المفاوضات فذلك يعني إعادة تموضع إيران في النظام الإقليمي والدولي! كذلك فتحت الحديث عن احتمال استضافة الرياض لقاءً بين الرئيسين الإيراني والأميركي، إذا ما نجحت المحادثات التي تحافظ طهران على عدم ابتعادها عن وساطة سلطنة عمان، حتى أن اللقاء في روما تمّ في داخل سفارتها؛ وكذلك سيعقد الاجتماعان المقبلان، الأربعاء على المستوى الفني، والسبت على مستوى كبار المفاوضين، بوساطةٍ عمانية، دلالة على أن طهران تستثمر في الرغبة الأميركية تجاهها، بالحفاظ على سيطرتها على إدارة منصّة التفاوض؛ لأن هدفها يتعلّق بشكل أوسع بتحديد موقعها في المعادلة الإقليمية والدولية، ولن تغادر دائرة العداء مع أميركا من أجل مجرّد تلافي ضربة عسكرية!
وتدلّ زيارة عراقجي بكين، بعد روما، على أن المحادثات النووية لم تبتعد عن دائرة المجموعة الدولية 5+1 (أميركا، بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين + ألمانيا)، وإن كانت تبدو في ظاهرها ثنائية بين واشنطن وطهران. لكن تأثيرها يتعلق بنطاق أوسع. فإيران تؤكّد بهذه الاتصالات أن حوارها مع الغرب ليس مساراً بديلاً من ارتباطها بقوى الشرق، وأن حوارها هذا يدخل ضمن إطار بناء نظام متعدّد الأقطاب. ولذلك تحافظ على إبقاء حلفائها على اطلاع على نتائج محادثاتها، مثلما تفعل واشنطن بإبلاغ حلفائها الأوروبيين والإسرائيليين؛ بالإضافة إلى حاجتها إلى عضوية روسيا والصين في مجلس الأمن وعملها على تشكيل إطار ثلاثيّ خلال مفاوضاتها مع واشنطن.
وبالنسبة إلى روسيا، فإن القضية الإيرانية والحرب في أوكرانيا والتطورات في الشرق الأوسط هي قضايا مترابطة، ولذلك لا تزال أوروبا تلوح بآلية الزناد ضد إيران، وهدفها هو الاطمئنان إلى أمنها أولاً قبل أمن إسرائيل! وكذلك لا تزال موسكو تماطل في حلّ أزمة أوكرانيا، وكأنها تنتظر نتائج المفاوضات بين واشنطن وطهران أولاً! وأيضاً بالنسبة إلى الصين، فإن نجاح المحادثات النووية ورفع العقوبات عن إيران فرصة لاقتصادها الذي يعتمد على الطاقة الآتية من منطقة الخليج، والتي لديها حجم تجارة كبير معها. وبذلك فإن دخول ضفتي الخليج إلى دائرة التنافس بين الشرق والغرب سيؤدي إلى تغيير كبير في معادلة العلاقات والتوازنات الإقليمية والدولية.